{ 89 - 92 } { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } { قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } أما يوسف فظاهر فعلهم فيه ، وأما أخوه ، فلعله والله أعلم قولهم : { إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } أو أن الحادث الذي فرَّق بينه وبين أبيه ، هم السبب فيه ، والأصل الموجب له . { إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } وهذا نوع اعتذار لهم بجهلهم ، أو توبيخ لهم إذ فعلوا فعل الجاهلين ، مع أنه لا ينبغي ولا يليق منهم .
وعندما يبلغ الأمر بهم إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار لا تبقى في نفس يوسف قدرة على المضي في تمثيل دور العزيز ، والتخفي عنهم بحقيقة شخصيته . فقد انتهت الدروس ، وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال ؛ فإذا هو يترفق في الإفضاء بالحقيقة إليهم ، فيعود بهم إلى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم ، ولم يطلع عليه أحد إلا الله :
( قال : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ؟ ) ! !
يقول تعالى مخبرا عن يوسف ، عليه السلام : أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه ، مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته ، وبدره البكاء ، فتعرف إليهم ، يقال{[15280]} إنه رفع التاج عن جبهته ، وكان فيها شامة ، وقال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } ؟ يعني : كيف فرقوا بينه وبينه { إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } أي : إنما حملكم على هذا{[15281]} الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه ، كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } إلى قوله : { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 119 ] .
والظاهر - والله أعلم - أن يوسف ، عليه السلام ، إنما تعرف إليهم بنفسه ، بإذن الله له في ذلك ، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين{[15282]} بأمر الله تعالى له في ذلك ، والله أعلم ، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر ، فَرَّج الله تعالى من ذلك الضيق ، كما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }{[15283]} [ الشرح : 5 ، 6 ] ، فعند ذلك قالوا : { أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ } ؟
وقرأ أبيّ بن كعب : " أو أنت{[15284]} يُوسُفُ " ، وقرأ ابن مُحَيْصِن : " إنَّك لأنتَ{[15285]} يُوسُفُ " . والقراءة المشهورة هي الأولى ؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام ، أي : إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفونه ، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : { أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي } { قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي : بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة ، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق ، والسعة والملك ، والتصرف والنبوة أيضا - على قول من لم يجعلهم أنبياء - وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } .
ذُكِر أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما قال له إخوته : يا أيّها العَزِيزُ مَسّنا وأهْلَنا الضّرّ وَجِئْنا بِبِضَاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنا الكَيْلَ وَتَصَدّقْ عَلَيْنا إنّ اللّهَ يَجْزِي المُتَصَدّقِينَ أدركته الرقة وباح لهم بما كان يكتمهم من شأنه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذُكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام غلبته نفسه ، فارفضّ دمعه باكيا ، ثم باح لهم بالذي يكتم منهم ، فقال : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُونَ ؟ ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه هو فيه حين أخذه ، ولكن للتفريق بينه وبين أخيه ، إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلَمّا دَخَلوا عَلَيْهِ قالُوا يا أيّها العَزِيزُ مَسّنا وأهْلَنا الضّرّ . . . الآية ، قال : فرحمهم عند ذلك ، فقال لهم : هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُونَ ؟
فتأويل الكلام : هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه ، إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون ، يعني في حال جهلكم بعاقبة ما تفعلون بيوسف ، وما إليه صائر أمره وأمركم ؟
{ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه } أي هل علمتم قبحه فتبتم عنه وفعلهم بأخيه إفراده عن يوسف وإذلاله حتى لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة . { إذ أنتم جاهلون } قبحه فلذلك أقدمتم عليه أو عاقبته ، وإنما قال ذلك تنصيحا لهم وتحريضا على التوبة ، وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاقبة وتثريبا . وقيل أعطوه كتاب يعقوب في تخليص بنيامين وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه فقال لهم ذلك ، وإنما جهلهم لأن فعلهم كان فعل الجهال ، أو لأنهم كانوا حينئذ صبيانا شياطين .
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ( 89 ) }
روي أن يوسف عليه السلام لما قال إخوته { مسنا وأهلنا الضر } [ يوسف : 88 ] واستعطفوه - رق ورحمهم ، قال ابن إسحاق : وارفض{[6815]} دمعه باكياً فشرع في كشف أمره إليهم ، فيروى أنه حسر قناعه وقال لهم : { هل علمتم } الآية .
وقوله : { فعلتم بيوسف وأخيه } يريد من التفريق بينهما في الصغر والتمرس بهما وإذاية{[6816]} بنيامين . بعد مغيب يوسف . فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه ، ولم يشر إلى قصة بنيامين الآخرة لأنهم لم يفعلوا هم فيها شيئاً ، ونسبهم إما إلى جهل المعصية ، وإما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة ، فلما خاطبهم هذه المخاطبة - ويشبه أن يكون قد اقترن بها من هيئته وبشره وتبسمه ما دلهم - تنبهوا ووقع لهم من الظن القوي أنه يوسف ، فخاطبوه مستفهمين استفهام مقرر .