{ 13 - 30 } { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } إلى آخر القصة .
أي : واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك ، الرادين لدعوتك ، مثلا يعتبرون به ، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير ، وذلك المثل : أصحاب القرية ، وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه ، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله .
وتعيين تلك القرية ، لو كان فيه فائدة ، لعينها اللّه ، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم ، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار ، ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح ، الوقوف مع الحقائق ، وترك التعرض لما لا فائدة فيه ، وبذلك تزكو النفس ، ويزيد العلم ، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها ، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها .
والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثلا للمخاطبين . { إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } من اللّه تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ، وإخلاص الدين له ، وينهونهم عن الشرك والمعاصي .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على الناس - ليعتبروا ويتعظوا - قصة أصحاب القرية ، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم فقال - تعالى - .
{ واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية . . . }
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية } وهذه القرية هى " أنطاكية " فى قول جميع المفسرين . . . والمرسلون : قيل : هم رسل من الله على الابتداء . وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله - تعالى - .
ولم يرتض ابن كثير ما ذهب إليه القرطبى والمفسرون من أن المراد بالقرية " أنطاكية " كما أنه لم يرتض الرأى القائل بأن الرسل الثلاثة كانوا من عند عيسى - عليه السلام - فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : وقد تقدم عن كثير من السلف ، أن هذه القرية هى أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عيسى - عليه السلام - وفى ذلك نظر من وجوه :
أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله - عز وجل - لا من جهة عيسى ، كما قال - تعالى - : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ . . . } .
الثانى : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل عيسى إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح عليه السلام ، ولهذا كانت عند النصارى ، إحدى المدن الأربعة التى فيها بتاركه - أى ، علماء بالدين المسيحى . .
الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب عيسى ، كانت بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغيره ، أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين . . .
والذى يبدو لنا أن ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير هو الأقرب إلى الصواب وأن القرآن الكريم لم يذكر من هم أصحاب القرية ، لأن اهتمامه فى هذه القصة وأمثالها ، بالعبر والعظات التى تؤخذ منها .
وضرب المثل فى القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل فى تطبيق حالة غريبة ، بأخرى تشبهها ، كما فى قوله - تعالى - { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } فيكون المعنى : واجعل - أيها الرسول الكريم - حال أصحاب القرية ، مثلا لمشركى مكة فى الإِصرار على الكفر والعناد ، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء السابقين ، الذين كانت عاقبتهم أن أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون ، لأنهم كذبوا المرسلين .
وقوله - سبحانه - : { إِذْ جَآءَهَا المرسلون } بدل اشتمال من { أَصْحَابَ القرية } .
والمراد بالمرسلين : الذين أرسلهم الله إلى أهل تلك القرية ، لهدايتهم إلى الحق .
وقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا . . } بيان لكيفية الإِرسال ولموقف أهل القرية ممن جاءوا لإِرشادهم إلى الدين الحق .
أى : إن موقف المشركين منك - أيها الرسول الكريم - ، يشبه موقف أصحاب القرية من الرسل الذين أرسلناهم لهدايتهم ، إذ أرسلنا إلى أصحاب هذه القرية اثنين من رسلنا ، فكذبوهما .
والفاء فى قوله { فكذبوهما } للإِفصاح ، أى : أرسلنا إليهم اثنين لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لنا فذهبا إليه فكذبوهما .
وقوله : فعززنا بثالث أى : فقوينا الرسالة برسول ثالث ، من التعزيز بمعنى التقوية ، ومنه قولهم : تعزز لحم الناقة ، إذا اشتد وقوى . وعزز المطر الأرض ، إذا قواها وشدها . وأرض عزاز ، إذا كانت صلبة قوية .
ومفعول { فعززنا } محذوف لدلالة ما قبله عليه أى : فعززناهما برسول ثالث { فقالوا } أى الرسل الثلاثة لأصحاب القرية : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } ال إلى غيركم ، فأطيعونا فيما ندعوكم إليه من إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ونبذ عبادة الأصنام
{ واضرب لهم } ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد ، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : { مثلا أصحاب القرية } على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا ، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له ، والقرية انطاكية . { إذ جاءها المرسلون } بدل م أصحاب القرية ، و{ المرسلون } رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس عليهم الصلاة والسلام ، وقيل غيرهما . { فكذبوهما فعززنا } فقوينا ، وقرأ أبو بكر مخففا من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به . { بثالث } وهو شمعون . { فقالا إنا إليكم مرسلون } وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام أرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص ، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما ألنا إله سوى آلهتنا ؟
قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما ، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكرا وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به ، فقال له يوما : سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ، قال فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال صفاه وأوجزا ، قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال وما آيتكما ، قالا : ما يتمنى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف ، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، ثم قال أن قدر إهلكما على حياء ميت آمنا به ، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسنا يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع ، ومن ل يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا .
أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدي القرآن بتهديدهم بعذاب الدنيا إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله : { إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم خامدون } [ يس : 29 ] .
والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل ، ومنه : ضرب ختمه . وضربتْ بيتاً ، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى : { إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً مَّا } في سورة البقرة ( 26 ) .
والمعنى : اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شَبهاً لأهل مكة وإرسالك إليهم .
و{ لهم } يجوز أن يتعلق ب { اضرب } أي اضرب مثلاً لأجلهم ، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] . ويجوز أن يكون { لهم } صفة ل ( مثَل ) ، أي اضرب شبيهاً لهم كقوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] .
والمثل : الشبيه ، فقوله : { واضرب لهم مثلاً } معناه ونظّرْ مثلاً ، أي شَبِّه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين ، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم جُعل { مثلاً } مفعولاً ل { اضرب } ، أي نظّر حالهم بمشابه فيها فحصل الاختلاف بين { اضرب } ، و { مثلاً } بالاعتبار . وانتصب { مثلاً } على الحال .
وانتصب { أصحاب القرية } على البيان ل { مثلاً } ، أو بدل ، ويجوز أن يكون مفعولاً أول ل { اضرب } و { مثلاً } مفعولاً ثانياً كقوله تعالى : { ضرب اللَّه مثلاً قرية } [ النحل : 112 ] .
والمعنى : أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم .
و { القرية } قال المفسرون عن ابن عباس : هي ( أنطاكية ) وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان .
والمرسلون إليها قال قتادة : هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رُفِع عيسى . وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك .
وتحقيق القصة : أن عيسى عليه السلام لم يدْعُ إلى دينه غير بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإِلهية إكماله من شريعة التوراة ، ولكن عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها ، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام . وكان ذلك في حدود سنة أربعين بعد مولد عيسى عليه السلام .
ووقعت اختلافات للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية وتحريفات في الأسماء ، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمال الرسل من كتب العهد الجديد{[338]} أن ( برنابا ) و ( شاول ) المدعو ( بُولس ) من تلاميذ الحواريين ووُصِفا بأنهما من الأنبياء ، كانا في أنطاكية مرسلَيْن للتعليم ، وأنهما عُززا بالتلميذ{[339]} ( سيلا ) . وذكر المفسرون أن الثالث هو ( شمعون ) ، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بُولس وبرنابا عزّزا بسمعان . ووقع في الإِصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبيء في أنطاكية اسمه ( سمعان ) .
والمكذبون هم من كانوا سكاناً بأنطاكية من اليهود واليونان ، وليس في أعمال الرسل{[340]} سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين وبين المرسل إليهم ، فذكر أنه كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم ، حتى اضطر ( بولس وبرنابا ) إلى أن خرجا من أنطاكية وقصدا أيقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن ، وأن أحبار النصارى في تلك المدائن رأوا أن يعيدون بولس وبرنابا إلى أنطاكية . وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين ، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أورشليم أن يؤيدوهما برجلين من الأنبياء هما ( برسابا ) و ( سيلا ) . فأما ( برسابا ) فلم يمكث . وأما ( سيلا ) فبقي مع ( بولس وبرنابا ) يعظون الناس ، ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحابهم من الحواريين . فهذا معنى قوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } إذ أسند الإرسال والتعزيز إلى الله .
والتعزيز : التقوية ، وفي هذه المادة معنى جعل المقوَّى عزيزاً فالأحسن أن التعزيز هو النصر .
وقرأ أبو بكر عن عاصم { فعززنا } بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عزّ بمعنى يحيي مرادفاً لعزّز كما قالوا شدّ وشدّد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واضرب لهم مثلا} وصف لهم يا محمد، شبها لأهل مكة في الهلاك.
{أصحاب القرية}... {إذ جاءها المرسلون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومثل يا محمد لمشركي قومك "مثلاً أصحابَ القرية"... "إذْ جاءَها المُرْسَلُونَ"، اختلف أهل العلم في هؤلاء الرسل، وفيمن كان أرسلهم إلى أصحاب القرية؛
فقال بعضهم: كانوا رسل عيسى بن مريم، وعيسى الذي أرسلهم إليهم... وقال آخرون: بل كانوا رسلاً أرسلهم الله إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل الأمر لرسوله بضرب مثل أصحاب القرية لقومه وجهين:
أحدهما: أن الخبر قد كان بلغ هؤلاء، أعني خبر أصحاب القرية التي بعث إليهم الرسل وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل وسوء معاملتهم إياهم، إلا أنهم قد نسوا ذلك، وغفلوا عنه، فأمرهم بالتذكير لهم والتّبيين ليحذروا من مثل صنيعهم وسوء معاملتهم رسولهم.
والثاني: يحتمل أن لم يكن بلغهم خبر أولئك وما نزل بهم بسوء معاملتهم الرسول، فأمره أن يُعلم قومه ذلك، ويبيّن لهم، فيسألون عن ذلك أهل الكتاب، فيُخبرونهم بما كان في كتبهم، فيعرفون صدق رسول الله في ما يخبرهم، فيكونون في حذر من مثل صنيعهم ومعاملتهم الرسل.
وعلى ذلك تخرّج هذه الأنباء والقصص المذكورة في الكتاب على هذين الوجهين، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
انقرض زمانُهم ونُسِيَ أوانُهم وشأنُهم! ولكننا نتذكر أحوالهم بعد فوات أوقاتهم، ولا نرضى بألا يجري بين أحبائنا وعلى ألْسِنَةِ أوليائنا ذِكْرُ الغائبين والماضين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...اختلف المفسرون في «المرسلين» قالت فرقة: هؤلاء أنبياء من قبل الله تعالى... وهذا يرجحه قول الكفرة {ما أنتم إلا بشر مثلنا} فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى والآخر محتمل... واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما بثالث، وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا...
فيه وجهان، والترتيب ظاهر على الوجهين:
الوجه الأول: هو أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلا.
والثاني: أن يكون المعنى: واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلا، أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية.
وعلى الأول نقول لما قال الله: {إنك لمن المرسلين} وقال: {لتنذر} قال قل لهم: {ما كنت بدعا من الرسل} بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة.
وعلى الثاني نقول لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال للنبي عليه الصلاة والسلام: فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلا، أي مثل لهم عند نفسك مثلا حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء، وأنت جئتهم واحدا وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤوا قرية وأنت بعثت إلى العالم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كان ضرب الأمثال بالمشاهدات ألصق شيء بالبال، وأقطع للمراء والجدال، وأكتشف لما يراد من الأحوال، قال عاطفاً على {فبشره} مبيناً للأصل الثالث الذي هو الأول بالأصالة المقصود بالذات، وهو التوحيد، ضامّاً إليه الأصلين الاخرين، ليكون المثل جامعاً، والبرهان به واضحاً ساطعاً: {واضرب لهم} أي لأجلهم بشارة بما يرجى لهم عند إقبالهم، ونذارة لما يخشى عليهم عند إعراضهم وإدبارهم.
{مثلاً} أي مشاهداً في إصرارهم على مخالفة الرسول وصبره عليهم ولطفه بهم؛ لأنا ختمنا على قلوبهم على الكفران مع قربهم منك في النسب والدار، وفوز غيرهم لأنا نورنا قلوبهم مع البعد في النسب والدار بالإيمان وثمراته الحسان؛ لأنهم يخشون الرحمن بالغيب، ولا يثبتون على الغباوة والريب.
ولما ذكر المثل، أبدل منه قوله: {أصحاب القرية} التي هي محل الحكمة واجتماع الكلمة وانتشار العلم ومعدن الرحمة.
ولما كان الممثل به في الحقيقة إنما هو إخبارها بأحوال أهلها لأنها وجه الشبه، وكانت أخبارها كثيرة في أزمنة مديدة، عين المراد بقوله: {إذ} وهي بدل اشتمال من القرية مسلوخة من الظرفية.
ولما كان الآتي ناحية من بلد وإن عظم يعد في العرف آتياً لذلك البلد، أعاد الضمير على موضع الرسالة تحقيقاً له وإبلاغاً في التعريف بمقدار بعد الأقصى فقال: {جاءها} أي القرية لإنذار أهلها.
{المرسلون} أي عن الله لكونهم عن رسوله عيسى عليه السلام، أرسلهم بأمره لإثبات ما يرضيه سبحانه ونفي ما يكرهه الذين هم من جملة من قيل في فاطر إنهم جاؤوا بالبينات وبالزبر.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
تعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها اللّه، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح، الوقوف مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها.
والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثلا للمخاطبين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهكذا ينقلنا القرآن إلى التاريخ، حيث واجه المرسلون الدعاة إلى الله المواقف الصعبة التي تتحداهم فيها قوى الكفر بكل أساليب التمرد والجحود، فلا تستمع إليهم، ولا توافق على الدخول في حوار معهم، ولكنهم لا يتراجعون، بل يستمرون في الدعوة وإعلان الموقف، لأن كلمة الرسالة لا بد من أن تُقال وتتحرك مع الآذان الصمّاء والمواقف الرافضة، لتفرض نفسها على الجوّ، أو لتنفذ من خلال ثغرةٍ طارئةٍ من هنا، ونافذةٍ مفتوحةٍ على القلب من هناك، لتبدأ الطريق من الموقع الصغير، فالتراجع في البداية أمام تحديات الآخرين، يفرض أن لا تبدأ الرسالة، باعتبار أن القوى المضادّة تقف أمام البدايات لتهزمها حتى لا تفرض نفسها على الساحة بعد ذلك.
وهكذا يريد القرآن أن يحدثنا عن تاريخ الحركة الرسالية، من دون دخولٍ في التفاصيل، لنستلهم من ذلك صلابة الموقف أمام التحدي، وطبيعة الذهنية الكافرة المتحجرة التي لا تنفتح للحق ولا للحوار.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ} الذين أغفل الله ذكر ملامحهم الشخصية في أسمائهم وصفاتهم، كما أغفل ذكر اسم القرية وموقعها، لأن القصة ليست لتفصيل التاريخ، بل لأخذ العبرة. وتحدث المفسرون عن أن هؤلاء المرسلين من حواريي عيسى (عليه السلام)، ولكنهم ذكروا تفاصيل القصة بما لا يتفق مع أجواء هذه الآيات مما لا جدوى في تحقيقه والجدل فيه.