{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } وهذا منة عظيمة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ، حيث أنزل عليهم هذا الذكر الحكيم ، المحكم المتقن ، المفصل للأحكام والحلال والحرام وإخبار الأنبياء الأقدمين ، وما أجرى الله على أيديهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات ، فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من الأخبار والأحكام ، فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من أعظم رحمة رب العباد .
وبعد أن حكى الله - تعالى - فى الآيات السابقة ولادة عيسى - عليه السلام - وما أجراه على يديه من معجزات ، وما أكرمه به من مكرمات ، وكيف كان موقف بنى إسرائيل منه ، وكيف أبطل الله مكرهم وخيب سعيهم ، إذ رفعه إليه وطهره من أقوالهم الباطلة وأفعالهم الأثيمة وتوعد أعداءه بالعذاب الشديد ووعد أتباعه بالثواب الجزيل . . . بعد أن حكى القرآن كل ذلك ختم حديثه عن عيسى - عليه السلام - ببيان حقيقة تكوينه ، وبإزالة وجه الغرابة فى ولادته ، وبتلقين النبى صلى الله عليه وسلم الرد الصحيح على كل مجادل فى شأن عيسى - عليه السلام - استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه المعجز فيقول : { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ . . . } .
قوله - تعالى - { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم } اسم الإشارة فيه وهو " ذلك " مشار به إلى المذكور من قصى آل عمران وقصة مريم وأمها ، وقصة زكريا وندائه لربه ، وقصة عيسى وما أجراه الله - تعالى - على يديه من معجزات وما خصه به من كرامات .
أى ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أى نقصه عليك متتابعا بعضه تلو بعض من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . فأنت لم تكن معاصراً لهؤلاء الذين ذكرنا لك قصصهم وأحوالهم وهذا من أكبر الأدلة على صدقك فيما تبلغه عن ربك .
وقوله { ذلك } مبتدأ وقوله { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } خبره .
وقوله { مِنَ الآيَاتِ } حال من الضمير المنصوب في { نَتْلُوهُ } .
والمراد بالآيات الحجج الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وقوله { والذكر الحكيم } أى والقرآن المحكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمشتمل على الحكم التى من شأنها أن تهدى الناس إلى ما يسعدهم متى اتبعوها وقيل المراد بالذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذى نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- .
ثم قال تعالى : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } أي : هذا الذي قَصَصْنَاه عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره ، هو مما قاله الله تعالى ، وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ ، فلا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى في سورة مريم : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ . مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ مريم : 34 - 35 ] .
{ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : ذلك هذه الأنباء التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمه مريم ، وأمها حنة ، وزكريا وابنه يحيى ، وما قصّ من أمر الحواريين ، واليهود من بني إسرائيل¹ نتلوها عليك يا محمد ، يقول : نقرؤها عليك يا محمد ، على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم ، بوحيناها إليك { منَ الآياتِ } يقول : من العبر والحجج ، على من حاجك من وفد نصارى نجران ويهود بني إسرائيل ، الذين كذّبوك ، وكذّبوا ما جئتهم به من الحقّ من عندي . { والذّكْر } يعني : والقرآن { الحَكِيم } يعني : ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ والباطل ، وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه .
كما : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الاَياتِ وَالذّكْرِ الحَكِيمِ } القاطع الفاصل الحقّ ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى ، وعما اختلفوا فيه من أمره ، فلا تقبلن خبرا غيره .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الحَكِيمِ } قال : القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { وَالذّكْرِ } يقول : القرآن الحكيم الذي قد كمل في حكمته .
{ ذلك } رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء ، و { نتلوه عليك } خبر ابتداء وقوله { من الآيات } لبيان الجنس ، ويجوز أن تكون للتبعيض ، ويصح أن يكون { نتلوه عليك } حالاً ويكون الخبر في قوله من { الآيات } وعلى قول الكوفيين يكون قوله { نتلوه } صلة لذلك ، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري{[3208]} :
وهذا تحملين طليق *** . . . . . . . . . . . . . . . .
ويكون الخبر في قوله : { من الآيات } ، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير ، وهذا محمولاً ، و{ نتلوه } معناه نسرده ، و{ من الآيات } ظاهره آيات القرآن ، ويحتمل أن يريد بقوله { من الآيات } من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ ، ولست ممن صحب أهل الكتاب ، فالمعنى أنها آيات لنبوتك ، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون { نتلوه } حالاً ، و{ الذكر } ما ينزل من عند الله ، و{ الحكيم } يجوز أن يتأول بمعنى المحكم ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة ، فيكون بناء اسم الفاعل ، قال ابن عباس ، { الذكر } القرآن ، و{ الحكيم } الذي قد كمل في حكمته .
تذييل : فإنّ الآياتِ والذكر أعمّ من الذي تُلي هنا ، واسم الإشارة إلى الكلام السابق من قوله تعالى : { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] وتذكير اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالكلام أو بالمذكورِ . وجملة نتلوه حال من اسم الإشارة على حدّ { وهذا بَعْلي شيخاً } [ هود : 72 ] وهو استعمال عربي فصيح وإن خالف في صحة مجيء الحال من اسم الإشارة بعض النحاة .
وقوله : { من الآيات } خبر { ذلك } أيّ إنّ تلاوة ذلك عليك من آيات صدقك في دعوى الرسالة ؛ فإنك لم تكن تعلمَ ذلك ، وهو ذِكر وموعظة للناس ، وهذا أحسن من جعل نتلوه خبراً عن المبتدأ ، ومن وجوه أخرى . والحكيم بمعنى المُحكَم ، أو هو مجاز عقلي أي الحكيم عالمُه أو تاليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.