الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ذَٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَيۡكَ مِنَ ٱلۡأٓيَٰتِ وَٱلذِّكۡرِ ٱلۡحَكِيمِ} (58)

قوله تعالى : { ذلِكَ نَتْلُوهُ } : يجوز أّنْ يكونَ " ذلك " مبتدأً و " نتلوه " الخبرَ ، و " من الآيات " حالٌ أو خبرٌ بعدَ خبرٍ ، ويجوزُ أن يكونَ " ذلك " منصوباً بفعل مقدر يفسِّره ما بعدَه ، فالمسألةُ من الاشتغال و " من الآيات " حالٌ أو خبرٌ مبتدأ مضمر أي : هُو من الآيات ، ولكنَّ الأحسنَ الرفعُ بالابتداءِ ، لأنه لا يُحْوج إلى إضمارٍ ، وعندَهم : " زيدٌ ضربتُه " أحسنُ مِنْ " زيداً ضربته " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " ذلكَ " خبرَ مبتدأ مضمر ، يعني : الأمر ذلك ، و " نَتْلوه " على هذا حالٌ من اسم الإِشارة ، و " من الآيات " حالٌ من مفعولٍ " نَتْلوه " ويجوزُ أَنْ يكونَ " ذلك " موصولاً بمعنى الذي ، و " نَتْلوه " صلةٌ وعائدٌ ، وهو مبتدأٌ خبرُه الجارُّ بعده ، أي : الذي نتلوه عليك كائنٌ من الآيات أي : المعجزاتُ الدالَّةُ على نُبُوَّتِك ، جَوَّز ذلك الزجاج وتَبِعه الزمخشري ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أن يكونَ اسمٌ من أسماء الإِشارة موصولاً إلا " ذا " خاصةً بشروط تقدَّم ذكْرُها ، ويجوز أن يكونَ " ذلك " مبتدأً ، و " من الآيات " خبره ، و " نتلوه " جملةً في موضعِ نصب على الحال ، والعاملُ معنى اسمِ الإِشارة .

و " مِنْ " فيها وجهان ، أظهرهما :

أنها تبعيضية ؛ لأن المتلوَّ عليه عليه السلام من قصة عيسى بعضُ معجزاتِه وبعضُ القرآن ، وهذا وجهٌ واضح .

والثاني : أنها لبيانِ الجنسِ ، وإليه ذهب ابنُ عطية وبه بَدَأ ، قال الشيخ : " ولا يتأتَّى ذلك هنا من جهةِ المعنى إلا بمجازٍ ، لأنَّ تقديرَ " مِنْ " البيانية بالموصول ليس بظاهر ، إذ لو قلت : " ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم " لاحتجْتَ إلى تأويلٍ ، وهو أَنْ يُجْعَلَ بعضُ الآيات والذكرِ آياتٍ وذكراً وهو مجازٌ .

والحكيمُ صيغةُ مبالغَةٍ مُحَوَّلٌ من فاعل كضريب من ضارب ، ووُصِف الكتاب بذلك مجازاً ، لأن هذه الصفة في الحقيقة لمُنْزِلِهِ والمتكلم به فَوُصِفَ بصفةِ مَنْ هو من سببِه وهو الباري تبارك وتعالى ، أو لأنه ناطقٌ بالحكمةِ أو لأنه أَحْكَمُ في نظمه ، وجَوَّزوا أن يكونَ بمعنى مُفْعِل أي : مُحْكِم لقوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } إلاَّ أنَّ فَعِيلاً بمعنى مُفْعِل قليلٌ قد جاءَتْ منه أُلَيْفاظٌ قالوا : عَقَدْتُ العَسَلَ فهو عَقِيد ومُعْقَد ، واحتبسْتُ الفرسَ في سبيلِ الله فهو حَبِيس ومُحْبَس .

وفي قوله : { نَتْلُوهُ } التفاتٌ من غَيْبَة إلى تكلُّم ، لأنه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهرٌ ، وهو قولُه : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } كذا قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ ، إذ يُحْتمل أن يكونَ { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } جِيء بها اعتراضاً بين أبعاضِ هذه القصةِ .

وقوله : { نَتْلُوهُ } فيه وجهان :

أحدُهما : أنه وإنْ كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى أي : ذلكَ الذي قَدَّمْناه من قصةِ عيسى وما جَرَى له تَلَوْناه عليك كقولِه : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } [ البقرة : 102 ] ،

والثاني : على بابِه لأنَّ الكلامَ بعدُ لم يَتِمَّ ، ولم يفرغ من قصة عيسى عليه السلام إذ بقي منها بقية .