{ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } أى : يا ربنا بهؤلاء السادات والكبراء عذابا مضاعفا ، بسبب ضلالهم فى أنفسهم ، وبسبب إضلالهم لغيرهم .
{ والعنهم لَعْناً كَبِيراً } اى واطرادهم من رحمتك ، وأبعدهم عن مغفرتك ، إبعادا شديدا عظيما ، فهم كانوا سببا لنا فى هذا العذاب المهين الذى نزول بنا .
وهكذا نرى الآيات الكريمة ، تصور لنا أحوال الكافرين فى الآخرة هذا التصوير المؤثر ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حى عن بينة .
{ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } أي : بكفرهم وإغوائهم إيانا ، { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا }{[24056]} . قرأ بعض القراء بالباء الموحدة . وقرأ آخرون بالثاء المثلثة ، وهما قريبا المعنى ، كما في حديث عبد الله بن عمرو : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال : " قل : اللهم ، إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " . أخرجاه في الصحيحين{[24057]} ، يُروى " كبيرا " و " كثيرا " ، وكلاهما بمعنى صحيح .
واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه ، وفي ذلك نظر ، بل الأولى أن يقول هذا تارة ، وهذا تارة ، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ فَحَسَن ، وليس له الجمع بينهما ، والله أعلم .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا ضِرَار بن صُرَد ، حدثنا علي بن هاشم ، عن [ محمد بن ]{[24058]} عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه{[24059]} ، في تسمية مَنْ شهد مع علي ، رضي الله عنه : الحجاج بن عمرو بن غَزيَّة ، وهو الذي كان يقول عند اللقاء : يا معشر الأنصار ، أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه : { رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } ؟{[24060]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ رَبّنَآ إِنّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلّونَا السّبِيلاْ * رَبّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وقال الكافرون يوم القيامة في جهنم : ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فَأَضَلّونا السّبِيلَ يقول : فأزالونا عن محجة الحقّ ، وطريق الهدى ، والإيمان بك ، والإقرار بوحدانيتك ، وإخلاص طاعتك في الدنيا رَبّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ يقول : عذّبهم من العذاب مِثْلَى عذابنا الذي تعذّبنا وَالْعَنْهُمْ لَعْنا كَبيرا يقول : واخزهم خزيا كبيرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : رَبّنا إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَراءنَا أي رؤوسنا في الشرّ والشرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّا أطَعْنا سادَتَنا وكُبَرَاءَنا قال : هم رؤوس الأمم الذين أضلوهم ، قال : سادتنا وكبراءنا واحد .
وقرأت عامة قرّاء الأمصار : سادَتَنا . ورُوي عن الحسن البصري : «سادَاتِنا » على الجماع ، والتوحيد في ذلك هي القراءة عندنا ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
واختلفوا في قراءة قوله : لَعْنا كَبِيرا فقرأت ذلك عامة قرّاء الأمصار بالثاء : «كَثِيرا » من الكثرة ، سوى عاصم ، فإنه قرأه لَعْنا كَبِيرا من الكبر . والقراءة في ذلك عندنا بالثاء لإجماع الحجة من القراء عليها .
وإعادة النداء في قولهم : { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } تأكيد للضراعة والابتهال وتمهيد لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوهُ على كاهل كبرائهم . والضِعف بكسر الضاد : العدد المماثل للمعدود ، فالأربعة ضعف الاثنين . ولما كان العذاب معنى من المعاني لا ذاتاً كان معنى تكرير العدد فيه مجازاً في القوة والشدة . وتثنية { ضعفين } مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى : { ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير } [ الملك : 4 ] فإن البصر لا
يخسَأ في نظرتين ، ولذلك كان قوله هنا : { آتهم ضعفين من العذاب } مساوياً لقوله : { فآتهم عذاباً ضعفاً من النار } في سورة الأعراف [ 38 ] . وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال عليهم ، وأن العذاب الذي أعدّ لهم يسلط على أولئك الذين أضلّوهم . ووُصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا عذاباً لكفرهم وعذاباً لتسببهم في كفر أتباعهم . فالمراد بالكثير الشديد القوي ، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله : { ضعفين } المراد به الكثرة . وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قِبل الجلالة بقوله : { قال لكل ضعف } [ الأعراف : 38 ] يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضاً استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم ولتوسيد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم .