فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة ، وما لهم من الثواب والعقاب فقال : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فله الحمد تعالى ، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين ، الدالين على تمام مغفرة اللّه ، وسعة رحمته ، وعموم جوده ، مع أن المحكوم عليهم ، كثير منهم ، لم يستحق المغفرة والرحمة ، لنفاقه وشركه .
واللام فى قوله - سبحانه - : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات . . . } متعلقة بقوله : { وَحَمَلَهَا الإنسان . . } .
أى : وحملها الإِنسان ليعذب اله - تعالى - بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يؤدوا ما التزموا بحمله وهم المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } أى : ويقبل الله - تعالى - توبة المؤمنين والمؤمنات ، بأن يكفر عنهم سيئاتهم وخطاياهم .
{ وَكَانَ الله } - تعالى - ما زال { غَفُوراً رَّحِيماً } أى : واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .
أما بعد : فهذا تفسير لسورة ( الأحزاب ) نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . .
وقوله تعالى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } أي : إنما حمل ابن آدم الأمانة وهي التكاليف ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات ، وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله ، { وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } ، وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ، عز وجل ، ومخالفة رسله ، { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي : وليرحم{[24141]} المؤمنين من الخلق{[24142]} الذين آمنوا بالله ، وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } . [ آخر تفسير سورة " الأحزاب " ]{[24143]}
القول في تأويل قوله تعالى : { لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول تعالى ذكره : وحمل الإنسان الأمانة كيما يعذّب الله المنافقين فيها الذين يظهرون أنهم يؤدّون فرائض الله ، مؤمنين بها ، وهم مستسرّون الكفر بها ، والمنافقات والمشركين بالله في عبادتهم إياه الاَلهة والأوثان ، والمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ على المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ يرجع بهم إلى طاعته ، وأداء الأمانات التي ألزمهم إياها حتى يؤدّوها وكانَ اللّهُ غَفُورا لذنوب المؤمنين والمؤمنات ، بستره عليها ، وتركه عقابهم عليها رَحِيما أن يعذّبهم عليها بعد توبتهم منها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العتبري ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن أنه كان يقرأ هذه الاَية : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ والجِبالِ حتى ينتهي لِيُعَذّبَ اللّهُ المُنافِقينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ فيقول : اللذان خاناها ، اللذان ظلماها : المنافق والمشرك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِيُعَذّبَ اللّهُ المُنافِقِينَ وَالمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ هذان اللذان خاناها ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ، هذان اللذان أدّياها وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما .
{ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } تعليل للحمل من حيث انه نتيجته كالتأديب للضرب في ضربته تأديبا ، وذكر التوبة في الوعد إشعار بأنهم كونهم ظلوما جهولا في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات . { وكان الله غفورا رحيما } حيث تاب عن فرطاتهم واثاب بالفوز على طاعاتهم .
وقوله { ليعذب الله } اللام لام العاقبة لأن الإنسان لم يحمل ليقع العذاب لكن حمل فصار الأمر وآل إلى أن يعذب من نافق ومن أشرك وأن يتوب على من آمن{[9590]} . وقرأ الجمهور و «يتوب » بالنصب عطفاً على قوله { ليعذب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن و «يتوبُ » بالرفع على لقطع والاستئناف{[9591]} ، وباقي الآية بين .
متعلق بقوله : { وحملها الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] لأن المنافقين والمشركين والمؤمنين من اصناف الإِنسان . وهذه اللام للتعليل المجازي المسماة لامَ العاقبة . وقد تقدم القول فيها غير مرة إحداها قوله تعالى : { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } في آل عمران [ 178 ] .
والشاهد الشائع فيها هو قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] وعادة النحاة وعلماء البيان يقولون : إنها في معنى فاء التفريع : وإذ قد كان هذا عاقبة لحمل الإِنسان الأمانة وكان فيما تعلق به لام التعليل إجمال تعين أن هذا يفيد بياناً لما أُجمل في قوله : { إنه كان ظلوماً جهولاً } [ الأحزاب : 72 ] كما قدمناه آنفاً ، اي فكان الإِنسان فريقين : فريقاً ظالماً جاهلاً ، وفريقاً راشداً عالماً .
والمعنى : فعذب الله المنافقين والمشركين على عدم الوفاء بالأمانة التي تحملوها في أصل الفطرة وبحسب الشريعة ، وتاب على المؤمنين فغفر لهم من ذنوبهم لأنهم وفوا بالأمانة التي تحملوها . وهذا مثل قوله فيما مر : { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم } [ الأحزاب : 24 ] أي كما تاب على المؤمنين بأن يندموا على ما فرط من نفاقهم فيخلصوا الإِيمان فيتوب الله عليهم وقد تحقق ذلك في كثير منهم .
وإظهار اسم الجلالة في قوله : { ويتوب الله } وكان الظاهر إضماره لزيادة العناية بتلك التوبة لما في الإِظهار في مقام الإِضمار من العناية .
وذكر المنافقات والمشركات والمؤمنات مع المنافقين والمشركين والمؤمنين في حين الاستغناء عن ذلك بصيغة الجمع التي شاع في كلام العرب شموله للنساء نحو قولهم : حل ببني فلان مرض يريدون وبنسائهم .
فذِكْرُ النساء في الآية إشارة إلى أن لهن شأناً كان في حوادث غزوة الخندق من إعانة لرجالهن على كيد المسلمين وبعكس ذلك حال نساء المسلمين .
وجملة { وكان الله غفوراً رحيماً } بشارة للمؤمنين والمؤمنات بأن الله عاملهم بالغفران وما تقتضيه صفة الرحمة .