{ 13 - 30 } { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } إلى آخر القصة .
أي : واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك ، الرادين لدعوتك ، مثلا يعتبرون به ، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير ، وذلك المثل : أصحاب القرية ، وما جرى منهم من التكذيب لرسل اللّه ، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله .
وتعيين تلك القرية ، لو كان فيه فائدة ، لعينها اللّه ، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم ، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار ، ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح ، الوقوف مع الحقائق ، وترك التعرض لما لا فائدة فيه ، وبذلك تزكو النفس ، ويزيد العلم ، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها ، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها .
والشاهد أن هذه القرية جعلها اللّه مثلا للمخاطبين . { إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ } من اللّه تعالى يأمرونهم بعبادة اللّه وحده ، وإخلاص الدين له ، وينهونهم عن الشرك والمعاصي .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على الناس - ليعتبروا ويتعظوا - قصة أصحاب القرية ، وما جرى بينهم وبين الرسل الذين جاءوا لهدايتهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم فقال - تعالى - .
{ واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية . . . }
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية } وهذه القرية هى " أنطاكية " فى قول جميع المفسرين . . . والمرسلون : قيل : هم رسل من الله على الابتداء . وقيل : إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله - تعالى - .
ولم يرتض ابن كثير ما ذهب إليه القرطبى والمفسرون من أن المراد بالقرية " أنطاكية " كما أنه لم يرتض الرأى القائل بأن الرسل الثلاثة كانوا من عند عيسى - عليه السلام - فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : وقد تقدم عن كثير من السلف ، أن هذه القرية هى أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عيسى - عليه السلام - وفى ذلك نظر من وجوه :
أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله - عز وجل - لا من جهة عيسى ، كما قال - تعالى - : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ . . . } .
الثانى : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل عيسى إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح عليه السلام ، ولهذا كانت عند النصارى ، إحدى المدن الأربعة التى فيها بتاركه - أى ، علماء بالدين المسيحى . .
الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب عيسى ، كانت بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغيره ، أن الله تعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين . . .
والذى يبدو لنا أن ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير هو الأقرب إلى الصواب وأن القرآن الكريم لم يذكر من هم أصحاب القرية ، لأن اهتمامه فى هذه القصة وأمثالها ، بالعبر والعظات التى تؤخذ منها .
وضرب المثل فى القرآن الكريم كثيرا ما يستعمل فى تطبيق حالة غريبة ، بأخرى تشبهها ، كما فى قوله - تعالى - { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين } فيكون المعنى : واجعل - أيها الرسول الكريم - حال أصحاب القرية ، مثلا لمشركى مكة فى الإِصرار على الكفر والعناد ، وحذرهم من أن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء السابقين ، الذين كانت عاقبتهم أن أخذتهم الصيحة فإذا هم خامدون ، لأنهم كذبوا المرسلين .
وقوله - سبحانه - : { إِذْ جَآءَهَا المرسلون } بدل اشتمال من { أَصْحَابَ القرية } .
والمراد بالمرسلين : الذين أرسلهم الله إلى أهل تلك القرية ، لهدايتهم إلى الحق .
وقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا . . } بيان لكيفية الإِرسال ولموقف أهل القرية ممن جاءوا لإِرشادهم إلى الدين الحق .
أى : إن موقف المشركين منك - أيها الرسول الكريم - ، يشبه موقف أصحاب القرية من الرسل الذين أرسلناهم لهدايتهم ، إذ أرسلنا إلى أصحاب هذه القرية اثنين من رسلنا ، فكذبوهما .
والفاء فى قوله { فكذبوهما } للإِفصاح ، أى : أرسلنا إليهم اثنين لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لنا فذهبا إليه فكذبوهما .
وقوله : فعززنا بثالث أى : فقوينا الرسالة برسول ثالث ، من التعزيز بمعنى التقوية ، ومنه قولهم : تعزز لحم الناقة ، إذا اشتد وقوى . وعزز المطر الأرض ، إذا قواها وشدها . وأرض عزاز ، إذا كانت صلبة قوية .
ومفعول { فعززنا } محذوف لدلالة ما قبله عليه أى : فعززناهما برسول ثالث { فقالوا } أى الرسل الثلاثة لأصحاب القرية : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } ال إلى غيركم ، فأطيعونا فيما ندعوكم إليه من إخلاص العبادة لله - تعالى - ، ونبذ عبادة الأصنام
وبعد عرض قضية الوحي والرسالة ، وقضية البعث والحساب ، في هذه الصورة التقريرية ، يعود السياق ليعرضهما في صورة قصصية . تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان :
واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ، فقالوا : إنا إليكم مرسلون . قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا ، وما أنزل الرحمن من شيء ، إن أنتم إلا تكذبون . قالوا : ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون . وما علينا إلا البلاغ المبين . قالوا : إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا : طائركم معكم ، أإن ذكرتم ? بل أنتم قوم مسرفون ) . .
ولم يذكر القرآن من هم أصحاب القرية ولا ما هي القرية . وقد اختلفت فيها الروايات . ولا طائل وراء الجري مع هذه الروايات .
وعدم إفصاح القرآن عنها دليل على أن تحديد اسمها أو موضعها لا يزيد شيئاً في دلالة القصة وإيحائها . ومن ثم أغفل التحديد ، ومضى إلى صميم العبرة ولبابها .
{ واضرب لهم } ومثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد ، وهو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما : { مثلا أصحاب القرية } على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا ، ويجوز أن يقتصر على واحد ويجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له ، والقرية انطاكية . { إذ جاءها المرسلون } بدل م أصحاب القرية ، و{ المرسلون } رسل عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أهلها وإضافته إلى نفسه في قوله : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } لأنه فعل رسوله وخليفته وهما يحيى ويونس عليهم الصلاة والسلام ، وقيل غيرهما . { فكذبوهما فعززنا } فقوينا ، وقرأ أبو بكر مخففا من عزه إذا غلبه وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به . { بثالث } وهو شمعون . { فقالا إنا إليكم مرسلون } وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام أرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين ، فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال : أمعكما آية فقالا : نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص ، وكان له ولد مريض فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر ، فشفي على أيديهما خلق كثير وبلغ حديثهما إلى الملك وقال لهما ألنا إله سوى آلهتنا ؟
قالا : نعم من أوجدك وآلهتك ، قال حتى أنظر في أمركما فحبسهما ، ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكرا وعاشر أصحاب الملك حتى استأنسوا به وأوصلوه إلى الملك فأنس به ، فقال له يوما : سمعت أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه ، قال فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال صفاه وأوجزا ، قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، قال وما آيتكما ، قالا : ما يتمنى الملك ، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره ، وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما ، فقال شمعون أرأيت لو سألت آلهتك حتى تصنع مثل هذا حتى يكون لك ولها الشرف ، قال ليس لي عنك سر آلهتنا لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، ثم قال أن قدر إهلكما على حياء ميت آمنا به ، فأتوا بغلام مات منذ سبعة أيام فدعوا الله فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا ، وقال فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسنا يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك من هم قال شمعون وهذان فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن في جمع ، ومن ل يؤمن صاح عليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فهلكوا .
الضرب للمثل مأخوذ من الضريب الذي هو الشبه في النوع ، كما تقول هذا ضرب هذا ، واختلف هل يتعدى فعل ضرب المثل إلى مفعولين أو إلى واحد ، فمن قال إنه يتعدى إلى مفعولين جعل هذه الآية { مثلاً } و { أصحاب } مفعولين لقوله { اضرب } ، ومن قال إنه يتعدى إلى مفعول واحد جعله { مثلاً } وجعل { أصحاب } بدلاً منه ، ويجوز أن يكون المفعول { أصحاب } ويكون قوله { مثلاً } نصب على الحال ، أي في حال تمثيل منك ، و { القرية } على ما روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أنطاكية ، واختلف المفسرون في «المرسلين » فقال قتادة وغيره : كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه ، فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى أنطاكية ، وقالت فرقة : هؤلاء أنبياء من قبل الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يرجحه قول الكفرة { ما أنتم إلا بشر مثلنا } فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى والآخر محتمل ، وذكر النقاش في قصص هذه الآية شيئاً يطول والصحة فيه غير متيقنة فاختصرته ، واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله تعالى وحده ، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما بثالث وقامت الحجة على أهل القرية ، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى ، وقتلوه في آخر أمره ، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا ، وقرأ جمهور القراء «فعزّزنا » بشد الزاي الأولى على معنى قوينا وشددنا ، وبهذا فسر مجاهد وغيره ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عن أبي بكر «فعزَزنا » بالتخفيف في الزاي على معنى غلبناهم أمرهم{[1]} ، وفي حرف ابن مسعود «فعززنا بالثالث » بألف ولام .
أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدي القرآن بتهديدهم بعذاب الدنيا إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله : { إن كانت إلا صيحةً واحدةً فإذا هم خامدون } [ يس : 29 ] .
والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل ، ومنه : ضرب ختمه . وضربتْ بيتاً ، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى : { إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً مَّا } في سورة البقرة ( 26 ) .
والمعنى : اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شَبهاً لأهل مكة وإرسالك إليهم .
و{ لهم } يجوز أن يتعلق ب { اضرب } أي اضرب مثلاً لأجلهم ، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] . ويجوز أن يكون { لهم } صفة ل ( مثَل ) ، أي اضرب شبيهاً لهم كقوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] .
والمثل : الشبيه ، فقوله : { واضرب لهم مثلاً } معناه ونظّرْ مثلاً ، أي شَبِّه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين ، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم جُعل { مثلاً } مفعولاً ل { اضرب } ، أي نظّر حالهم بمشابه فيها فحصل الاختلاف بين { اضرب } ، و { مثلاً } بالاعتبار . وانتصب { مثلاً } على الحال .
وانتصب { أصحاب القرية } على البيان ل { مثلاً } ، أو بدل ، ويجوز أن يكون مفعولاً أول ل { اضرب } و { مثلاً } مفعولاً ثانياً كقوله تعالى : { ضرب اللَّه مثلاً قرية } [ النحل : 112 ] .
والمعنى : أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم .
و { القرية } قال المفسرون عن ابن عباس : هي ( أنطاكية ) وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان .
والمرسلون إليها قال قتادة : هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رُفِع عيسى . وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك .
وتحقيق القصة : أن عيسى عليه السلام لم يدْعُ إلى دينه غير بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإِلهية إكماله من شريعة التوراة ، ولكن عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها ، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام . وكان ذلك في حدود سنة أربعين بعد مولد عيسى عليه السلام .
ووقعت اختلافات للمفسرين في تعيين الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية وتحريفات في الأسماء ، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمال الرسل من كتب العهد الجديد{[338]} أن ( برنابا ) و ( شاول ) المدعو ( بُولس ) من تلاميذ الحواريين ووُصِفا بأنهما من الأنبياء ، كانا في أنطاكية مرسلَيْن للتعليم ، وأنهما عُززا بالتلميذ{[339]} ( سيلا ) . وذكر المفسرون أن الثالث هو ( شمعون ) ، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بُولس وبرنابا عزّزا بسمعان . ووقع في الإِصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبيء في أنطاكية اسمه ( سمعان ) .
والمكذبون هم من كانوا سكاناً بأنطاكية من اليهود واليونان ، وليس في أعمال الرسل{[340]} سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين وبين المرسل إليهم ، فذكر أنه كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم ، حتى اضطر ( بولس وبرنابا ) إلى أن خرجا من أنطاكية وقصدا أيقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن ، وأن أحبار النصارى في تلك المدائن رأوا أن يعيدون بولس وبرنابا إلى أنطاكية . وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين ، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أورشليم أن يؤيدوهما برجلين من الأنبياء هما ( برسابا ) و ( سيلا ) . فأما ( برسابا ) فلم يمكث . وأما ( سيلا ) فبقي مع ( بولس وبرنابا ) يعظون الناس ، ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحابهم من الحواريين . فهذا معنى قوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } إذ أسند الإرسال والتعزيز إلى الله .
والتعزيز : التقوية ، وفي هذه المادة معنى جعل المقوَّى عزيزاً فالأحسن أن التعزيز هو النصر .
وقرأ أبو بكر عن عاصم { فعززنا } بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عزّ بمعنى يحيي مرادفاً لعزّز كما قالوا شدّ وشدّد .