وقوله - تعالى - { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ . وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } بيان لشدة تماديهم فى الباطل ، وإصرارهم عليه .
أى : أن هؤلاء القوم من دأبهم ومن صفاتهم الملازمة لهم ، أنهم إذا وعظوا بما ينفعهم لا يتعظون ، وإذا رأوى آية واضحة فى دلالتها على الحق { يَسْتَسْخِرُونَ } أى : يبالغون فى السخرية وفى الاستهزاء بها ، يقال : استسخر القوم من الشئ ، إذا استدعى بعضهم بعضا للاستهزاء به .
وقوله تعالى { وإذا رأوا آية يستسخرون } ، يريد بالآية العلامة والدلالة ، وروي أنها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبل خال وهو يرعى غنماً له وهو أقوى أهل زمانه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي ؟ » قال : نعم ، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ونحو ذلك مما اختلف فيه العلماء وألفاظ الحديث ، فلما فرغ من ذلك كله لم يؤمن وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض{[4]} فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه ، وقوله { يستسخرون } معناه يطلبون أن يكونوا ممن يسخر ، ويجوز أن يكون بمعنى يسخرون كقوله تعالى : { واستغنى الله } [ التغابن : 6 ] فيكون فعل واستفعل بمعنى ، وب «يسخرون » فسره مجاهد وقتادة ، وفي بعض القراءات القديمة «يستسحرون » بالحاء غير منقوطة ، وهذه عبارة عما قال ركانة لأنه استسحر النبي صلى الله عليه وسلم .
و{ إذَا رَأوْا ءَايَةً } أي خارق عادة أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم دالاً على صدقه لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في هذا العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله : صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني . وقد رأوا انشقاق القمر ، فقالوا : هذا سحر ، قال تعالى : { اقتربت الساعة وانشقّ القمر وإن يروا آية يُعرِضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 1 ، 2 ] .
و { يَسْتَسْخِرُونَ } مبالغة في السخرية فالسين والتاء للمبالغة كقوله : { فاستجاب لهم ربهم } [ آل عمران : 195 ] وقوله : { فاستمسِك بالذي أوحي إليك } [ الزخرف : 43 ] .
والسخرية المذكورة في قوله : { ويسخرون } سخرية من محاجّة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالأدلة . والسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات ، أي يزيدون في السخرية بمن ظنّ منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم ، ألا ترى أنهم قالوا : { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 42 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَإذَا رأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ" يقول: وإذا رأوا حُجّة من حجج الله عليهم، ودلالة على نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "يستسخرون": يقول: يسخرون ويستهزئون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذه الآيات وأمثالها ذكرها لقوم، علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا: {بل عجبت ويسخرون} {وإذا ذُكّروا لا يذكرون} {وإذا رأوا آية يستسخرون} {وقالوا إن هذا إلا سحر مبين} [{أءذا متنا وكنا ترابا أءنا لمبعوثون} {أوَ آباؤنا الأولون}، يخبر عن عنادهم ومكابرتهم الآيات، ويذكر سفههم؛ ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم وجعله آيات القرآن تتلى أبدا، وجهان من الحكمة: أحدهما: صيّر ذلك آية لرسالته صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم أنهم كانوا على ما أخبر منهم من العناد والسّفه، وعلى ذلك ختموا، وقُبضوا؛ دل أنه بالله عرف ذلك، وبوحيه علم.
الثاني: يخبر، على ما رأى سلفُنا من سفه أولئك وعنادهم، وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر، لئلا يضيق صدرنا من سفه من تسفّه علينا من أهل الفساد والفسق، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه ولا لأذى المؤذي ولا لسوء يقال، بل يجب علينا أن نتأسّى بسلفنا، ونقتدي بهم.
{وإذا رأوا آية يستسخرون} يخبر عن سفههم أنهم، وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد، ولكن سؤال عناد وهُزء كقوله عز وجل: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون} {لقالوا إنما سُكّرت أبصارنا} [الحجر: 14 و15].
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{يَسْتَسْخِرُونَ} قيل: يستدعي بعضهم بعضاً إلى أن يسخر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يَسْتَسْخِرُونَ}: يبالغون في السخرية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر إعراضهم عن المسموع، أتبعه إعراضهم عن المرئي فقال: {وإذا رأوا آية} أي علامة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره {يستسخرون} أي يطلبون السخرية بها بأن يدعو بعضهم بعضاً لذلك من شدة استهزائهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا هم يتلقون آيات الله بالسخرية الشديدة، والتعجيب ممن يريهم إياها، واستدعاء أسباب السخرية وطلبها طلباً كما يوحي لفظ (يستسخرون)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {إذَا رَأوْا ءَايَةً} أي خارق عادة، أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم دالاً على صدقه؛ لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في هذا العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول؛ لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله: صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني.
السخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات، أي يزيدون في السخرية بمن ظنّ منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم، ألا ترى أنهم قالوا: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} [الفرقان: 42].
... في الآية قبل السابقة قال: {وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] وهنا {يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14] هذا دليل على أن من هؤلاء المكذبين أناساً ترقُّ قلوبهم لآيات الله وللأدلة الإيمانية، وحين ترقُّ قلوبهم تخفّ لديهم نزوة الكيد لمحمد، فيكتفون بالتكذيب دون السخرية؛ لأن الإباء يأتي على درجات، فواحد يأبى أنْ يفعل ما تأمره به، وآخر يأبى أن يفعل ويسخر منك.
فهؤلاء الذين يسخرون لا يكتفون بالسخرية من رسول الله، إنما {يَسْتَسْخِرُونَ} يعني: يطلبون ممَّنْ لا يسخر أنْ يسخر، يعني: يستسخرون غيرهم.