مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ ءَايَةٗ يَسۡتَسۡخِرُونَ} (14)

قوله تعالى : { وإذا ذكروا لا يذكرون ، وإذا رأوا آية يستسخرون وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ، أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ، أو آباؤنا الأولون ، قل نعم وأنتم داخرون } .

اعلم أنه تعالى لما قرر الدليل القاطع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى عن المنكرين أشياء :

أولها : أن النبي صلى الله عليه وسلم يتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات ، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد وفي طرفي النقيض .

وثانيها قوله : { وإذا ذكروا لا يذكرون } ، وثالثها قوله : { وإذا رأوا آية يستسخرون } ويجب أن يكون المراد من هذا الثاني والثالث غير الأول لأن العطف يوجب التغاير ولأن التكرير خلاف الأصل ، والذي عندي في هذا الباب أن يقال القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون : من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه ؟ وبلغوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك فلا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد عنهم إلا من وجهين أحدهما : أن يذكر لهم الدليل الدال على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن خلق السموات والأرض أشد وأصعب من إعادة إنسان بعد موته ؟ وهل تعلمون أن القادر على الأصعب الأشق يجب أن يكون قادرا على الأسهل الأيسر ؟ فهذا الدليل وإن كان جليا قويا إلا أن أولئك المنكرين إذا عرض على عقولهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها ، وإذا ذكروا لم يذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم ، فلا جرم لم ينتفعوا بهذا النوع من البيان .

الطريق الثاني : أن يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم جهة رسالته بالمعجزات ثم يقول لما ثبت بالمعجز كوني رسولا صادقا من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق ، ثم إن أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على كونها سحرا وسخروا بها واستهزؤا منها وهذا هو المراد من قوله : { وإذا رأوا آية يستسخرون } فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة .

واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق ، فقالوا إنه تعالى قال : { بل عجبت ويسخرون } .

ثم قال : { وإذا رأوا آية يستسخرون } فوجب أن يكون المراد من قوله : { يستسخرون } غير ما تقدم ذكه من قوله : { ويسخرون } فقال هذا القائل المراد من قوله : { ويسخرون } إقدامهم على السخرية والمراد من قوله : { يستسخرون } طلب كل واحد منهم من صاحبه أن يقدم على السخرية وهذا التكليف إنما لزمهم لعدم وقوفهم على الفوائد لتي ذكرناها ، والله أعلم .