{ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } الذي لا شك فيه لأن الله على كل شيء قدير ، وأنتم بالخصوص -يا أهل هذا البيت- رحمة الله وبركاته عليكم فلا يستغرب فضل الله وإحسانه إليكم .
{ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ } الذين يستبعدون وجود الخير ، بل لا تزال راجيا لفضل الله وإحسانه ، وبره وامتنانه ، فأجابهم إبراهيم بقوله :
وقوله - سبحانه - { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } .
أى : قال الملائكة لإِبراهيم لزيادة اطمئنانه ، ولتأكيد بشارته بالغلام العليم :
يا إبراهيم إنا بشرناك بالأمر المحقق الوقوع ، وباليقين الذي لا خلف معه ، وهو أن الله - تعالى - سيهبك الولد مع تقدم سنك وسن زوجك ، فلا تكن من الآيسين من رحمة الله - تعالى - فإن قدرته - عز وجل - لا يعجزها شىء .
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارة بعد بشارة ، { قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ } وقرأ بعضهم : " القنطين " {[16198]} - فأجابهم بأنه ليس يقنط ، ولكن يرجو من الله الولد ، وإن كان قد كبر وأسنَّت امرأته ، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك .
{ قالوا بشّرناك بالحق } بما يكون لا محالة ، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو قول الله تعالى وأمره . { فلا تكن من القانطين } من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر ، وكان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ؛ ولذلك { قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون }
نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشّرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا : { فلا تكن من القانطين } . ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثَراً من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله . ولما كان إبراهيم عليه السلام منزّهاً عن القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيراً له مما يدخله في تلك الزمرة ، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطاً لرفعة مقام نبوءته عن ذلك . وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله : { أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ سورة البقرة : 260 ] .
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام { إني أعظك أن تكون من الجاهلين } [ سورة هود : 46 ] .
وقد ذكرته الموعظة مقاماً نسيه فقال : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } . وهو استفهام إنكار في معنى النفي ، ولذلك استثنى منه { إلا الضالون } . يعني أنه لم يذهب عنه اجتناب القنوط من رحمة الله ، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبّهه الملائكة أدنى تنبيه تذكّر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا}... {بشرناك}، يعني: نبشرك، {بالحق}، يعني: بالصدق أن الولد لكائن، {فلا تكن} يا إبراهيم {من القانطين}، يعني: لا تيأس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال ضيف إبراهيم له: بشرناك بحقّ يقين، وعلم منّا بأن الله قد وهب لك غلاما عليما، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه، ولكن أبشر بما بشرناك به واقبل البُشرى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا بشرناك بالحق} أي بما هو كائن، لا محالة، والواجب على كل من أنعم عليه أن يشتغل بالشكر للنعم، لا يستكشف عن الوجوه التي أنعم والأحوال التي يكون عليها. ثم في البشارة بالولد بشارتان: إحداهما: بشارة بالغلام، والثانية: بالبقاء والبلوغ إلى وقت العلم حين قالوا {إنا نبشرك بغلام عليم}...
{فلا تكن من القانطين} قد ذكرنا أن الأنبياء قد نهوا عن أشياء، قد عُصموا عنها ما لا يحتمل أن يكون منهم ما نهوا عنه نحو قوله: {فلا تكونن من الممترين} (البقرة: 147)، وقوله: {ولا تكونن من المشركين} (الأنعام:14)... وأمثاله، وذلك مما لا يتوهم كونه منهم. وذلك لما ذكرنا أن العصمة لا ترفع المحنة، لأنها لو رفعت لذهبت فائدة العصمة، لأنه إنما يحتاج إليها عند المحنة. فأما إذا لم تكن محنة فلا حاجة إليها. فعلى ذلك إبراهيم لم يكن قنط من رحمة ربه أن لا يهب له الولد في كبره، ولكن ما ذكرنا.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قالوا بشرناك بالحقّ} أي بالصدق، إشارة منهم إلى أنه عن الله تعالى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بشرناك بالحق} يحتمل أن تكون الباء فيه صلة، أي: بشرناك باليقين الذي لا لبس فيه، أو بشرناك بطريقة هي حق وهي قول الله ووعده، وأنه قادر على أن يوجد ولداً من غير أبوين، فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر.
{بشرناك بالحق} قال ابن عباس: يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى: أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالوا بشرناك بالحق} أي الأمر الثابت المقطوع به الواقع لا محالة الذي يطابق خبرنا {فلا تكن} أي بسبب تبشيرنا لك بالحق {من القانطين} أي الآئسين الذين ركنوا إلى يأسهم، لقولك نحو أقوالهم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وكان مقصِدُه عليه الصلاة والسلام استعظامَ نعمتِه تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبنيِّ على سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده، لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبئ عنه قولُ الملائكة: فلا تكن من القانطين، دون أن يقولوا: من الممترين أو نحوه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشّرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا: {فلا تكن من القانطين}. ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثَراً من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله. ولما كان إبراهيم عليه السلام منزّهاً عن القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيراً له مما يدخله في تلك الزمرة، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطاً لرفعة مقام نبوءته عن ذلك. وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله: {أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [سورة البقرة: 260]. وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [سورة هود: 46]. وقد ذكرته الموعظة مقاماً نسيه فقال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}، وهو استفهام إنكار في معنى النفي، ولذلك استثنى منه {إلا الضالون}، يعني أنه لم يذهب عنه اجتناب القنوط من رحمة الله، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبّهه الملائكة أدنى تنبيه تذكّر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال الرسل: {بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين} الحق هو الأمر الثابت والله لا يبشر إلا بالحق الثابت، فلا تكن من الداخلين في صفوف القانطين من رحمة الله الذين يحسبون أن الأسباب الجارية بين الناس تعجز إرادة الله تعالى الله الفاعل المختار الذي هو خالق الأسباب والمسببات فلا يتقيد بها..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الذي انطلق من وحي الله وإرادته وقدرته التي يتسع لها كل شيء، {فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} اليائسين، لأنّ اليأس متعلق بالنظر من زوايا ضيقة تحاصر قدرة الإنسان وإرادته، لتحصرها في داخلها المحدود. أما عند النظر في الآفاق اللانهائية التي تنطلق في رحاب الله وسعة قدرته، فلا مجال إلا للأمل الكبير الواسع الذي تسقط أمامه كل نوازع اليأس والتشاؤم، لأن الحدود والحواجز والموانع كلها تتهاوى أمام الامتداد اللانهائي لقدرة الله، فكيف يمكن لك أن تقنط من أن يرزقك الله ولداً بعد هذه السن المتقدمة.