ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه ، فقال : { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا } أي : اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير ، وليس [ يريد منكم أموالكم ولا أجرا على نصحه لكم وإرشاده إياكم ، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه .
بقي ] أن يقال : فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة ، ولكنه ليس على الحق ، فدفع هذا الاحتراز بقوله : { وَهُمْ مُهْتَدُونَ } لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه ، ولا ينهون إلا بما يشهد العقل الصحيح بقبحه .
إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة ، وهو لا يطلب أجراً ، ولا يبتغي مغنماً . . إنه لصادق . وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله ? ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة ? ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة ? والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم ، وهو لا يجني من ذلك كسباً ، ولا يطلب منهم أجراً ?
( اتبعوا من لا يسألكم أجراً ) . . ( وهم مهتدون ) . .
وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم . فهم يدعون إلى إله واحد . ويدعون إلى نهج واضح . ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض . فهم مهتدون إلى نهج سليم ، وإلى طريق مستقيم .
وجملة { اتبعوا من لا يسألكم أجراً } مؤكدة لجملة { اتبعوا المرسلين } مع زيادة الإِيماء إلى علة اتّباعهم بلوائح علامات الصدق والنصح على رسالتهم إذ هم يَدْعُون إلى هُدى ولا نفع ينجرّ لهم من ذلك فتمحّضت دعوتهم لقصد هداية المرسَل إليهم ، وهذه كلمة حكمة جامعة ، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم .
وإنما قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين وكان من دواعي تكذيبهم اتّهامهم بأنهم يجرّون لأنفسهم نفعاً من ذلك لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يَعُدّون كل سعي يلوح على امرىء إنما يسعى به إلى نفعه . فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة وليَتهَيّؤوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه ، ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم ، والتخلية تُقدَّم على التحلية ، فكانت جملة { لا يسألكم أجراً } أهم في صلة الموصول .
والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة . فلما نفي عنهم أن يسألوا أجراً فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم .
وبعد ذلك تهيّأ الموقع لجملة { وهُم مهتدون } ، أي وهم متّصفون بالاهتداء إلى ما يأتي بالسعادة الأبدية ، وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سِيرتهم فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى ، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيباً في متابعتهم .
وأعلم أن هذه الآية قد مثل بها القزويني في « الإِيضاح » و « التلخيص » للإِطناب المسمى بالإِيغال وهو أن يُوتَى بعد تمام المعنى المقصود بكلام آخر يتمّ المعنى بدونه لنكتة ، وقد تبين لك مما فسّرنا به أن قوله : { وهم مهتدون } لم يكن مجرد زيادة بل كان لتوقف الموعظة عليها ، وكان قوله : { من لا يسألكم أجراً } كالتوطئة له . ونعتذر لصاحب « التلخيص » بأن المثال يكفي فيه الفرض والتقدير .
وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلاً عن دوامه وثباته ، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإِفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... عن ابن عباس، وعن كعب الأحبار، وعن وهب بن منبه "اتّبِعُوا مَنْ لا يَسألُكُمْ أجْرا وَهُمْ مُهْتَدُونَ": أي لا يسألونكم أموالكم على ما جاؤوكم به من الهدى، وهم لكم ناصحون، فاتبعوهم تهتدوا بهداهم.
وقوله: "وَهُمْ مُهْتَدُونَ "يقول: وهم على استقامة من طريق الحقّ، فاهتدوا أيها القوم بهداهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اتّبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} أي اتّبعوا الهدى، والهدى مما يجب أن يُتّبع، ولا يسألكم على اتباع الهدى أجرا، فيمنعكم الأجر عن اتّباع الهدى.
ويحتمل أن يقول: {اتبعوا المرسلين} واعلموا أنهم مهتدون حين لا يسألونكم الأجر.
{وهم مهتدون} في الدنيا... إذ كل من لا يسأل هذا فهو مهتد، وكل مهتد مُتّبَع، وهذا يدل أن طلب الأجر في ذلك مما يجعل صاحبه معذورا في ترك الاتّباع، وكذلك قوله: {وهم مهتدون} [الطور: 40 والقلم: 46] أي لا يسألكم أجرا حتى يمنعكم ثقل الأجر عن إجابته واتباعه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم.
هذا في غاية الحسن، وذلك من حيث إنه لما قال: {اتبعوا المرسلين} كأنهم منعوا كونهم مرسلين، فنزل درجة، وقال: لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين: إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة، وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق، لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة، وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين، أليسوا بمهتدين، فاتبعوهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
نبههم على الداعي إلى اتباعهم والمانع من الإعراض عنهم بقوله، معيداً الفعل دلالة على شدة اهتمامه به: {اتبعوا} أي بغاية جهدكم.
{من لا يسئلكم} أي في حال من الأحوال {أجراً}.
ولما كان أفرد الضمير نظراً إلى لفظ "من "دلالة على وجوب الاتباع لمن اتصف بهذا الأمر الدال على الرسالة وإن كان واحداً، جمع بياناً للأولوية بالتظافر والتعاضد والاتفاق في الصيانة والبعد عن الدنس، الدال على اتحاد القصد الدال على تحتم الصدق فقال: {وهم مهتدون} أي ثابت لهم الاهتداء لا يزايلهم، ما قصدوا شيئاً إلا أصابوا وجه صوابه، فتفوزوا بالدين الموجب للفوز بالآخرة، ولا يفوتكم شيء من الدنيا، فأتى بمجامع الترغيب في هذا الكلام الوجيز.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الذي يدعو مثل هذه الدعوة، وهو لا يطلب أجراً، ولا يبتغي مغنماً.. إنه لصادق. وإلا فما الذي يحمله على هذا العناء إن لم يكن يلبي تكليفاً من الله؟ ما الذي يدفعه إلى حمل هم الدعوة؟ ومجابهة الناس بغير ما ألفوا من العقيدة؟ والتعرض لأذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم، وهو لا يجني من ذلك كسباً، ولا يطلب منهم أجراً؟
(اتبعوا من لا يسألكم أجراً).. (وهم مهتدون)..
وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم. فهم يدعون إلى إله واحد. ويدعون إلى نهج واضح. ويدعون إلى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض. فهم مهتدون إلى نهج سليم، وإلى طريق مستقيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء؛ لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين، وكان من دواعي تكذيبهم اتّهامهم بأنهم يجرّون لأنفسهم نفعاً من ذلك؛ لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يَعُدّون كل سعي يلوح على امرئ إنما يسعى به إلى نفعه. فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة وليَتهَيّؤوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه؛ ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم، والتخلية تُقدَّم على التحلية، فكانت جملة {لا يسألكم أجراً} أهم في صلة الموصول.
والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة. فلما نفي عنهم أن يسألوا أجراً فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم.
وبعد ذلك تهيّأ الموقع لجملة {وهُم مهتدون}، أي وهم متّصفون بالاهتداء إلى ما يأتي بالسعادة الأبدية، وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سِيرتهم، فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيباً في متابعتهم.
وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية؛ لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلاً عن دوامه وثباته، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإِفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد.
ثم يذكر لهم حيثية أخرى فيقول: {اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} يعني: لم يطلبوا منكم أجراً على دعوتهم.
وكلمة {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} لا تُقال إلا إذا كان العمل الذي قام به يحتاج إلى أجر، والرسول ما جاء إلا لينفع المرسَل إليهم، فهو منطقياً يحتاج إلى أجر، لكن مَنْ يستطيع أنْ يوفيه أجره؟ لا أحد يوفيه أجره إلا الله؛ لأن نَفْع الرسول يتعدَّى نفْع الدنيا إلى نفع الآخرة، فمَنْ من البشر يعطي الرسول ما يستحقه؟
لذلك رأينا الرسل جميعاً يقولون هذه الكلمة {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} [يونس: 72] يعني: أنتم أيها القوم لا تملكون مقدار أجري، ولا تقدرون على تقييمه، إنما يعطيني أجري الذي أعمل من أجله. كل رسل الله قالوا هذه الكلمة إلا رسولين، هما: سيدنا إبراهيم، وسيدنا موسى عليهما السلام، لماذا؟
قالوا: لأن إبراهيم كانت أول دعوته لأبيه آزر، ولا يليق أنْ يطلب منه أجراً على دعوته إياه إلى الحق، كذلك سيدنا موسى أول ما دَعا دَعا فرعون الذي ربَّاه في بيته، وله فَضْل عليه، فكيف يطلب منه أجراً؟
وقوله سبحانه: {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [يس: 21] حيثية ثالثة لاتباعهم، فهم مُرْسَلُون من قِبَل مَنْ أرسله الله، والله لا يرسل إلا مَنْ يهدي إلى صراط مستقيم يوصل إليه سبحانه. فهؤلاء المرسلون مهتدون في أنفسهم، وبالتالي هادون لغيرهم، فهو إذن يذكر الأمر وعِلَّته، فهؤلاء الرسل لا يسألون أجراً، ولا يدعون إلى ضلال، بل إلى هدى.
ثم يلتفت هذا الرجل إلى نفسه، فيقول للقوم: أنا لا آمركم أمراً أنا عنه بنَجْوَة، ولو كنتُ سأغشُّكُم فلن أغشَّ نفسي {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] أي: خلقني من العدم، فهو أوْلى بالعبادة، هو الذي صنعني، أوجدني من عدم، وأمدَّني من عُدم، ولا زال يُوالي عليَّ نعمه، إذن: ما يمنعني أن أعبده وهو أَوْلَى بالعبادة، ولو لم تكُنْ عبادتي له إلا لأُكافئه على نعمه دون نظر إلى ثواب، لكانتْ عبادته واجبة.
وهذا ليس كلامَ رسول، إنما كلام رجل مؤمن متطوع باشر الإيمانُ قلبه، فأراد أنْ يزكّي إيمانه، وأنْ يُعدّى هدايته إلى غيره من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
الحق سبحانه خلق الخَلْق أولاً، ثم أرسل الرسل بالمنهج لهدايتهم، الرسل بدورهم بلَّغوا الأصحاب، ومَنْ بلغه شيء تحمله كما يتحمله الرسول، لذلك قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها فرُبَّ مُبلَّغ أَوْعَى من سامع".
إذن: مسئولية الدعوة يتحملها أولاً الرسل، ثم المؤمنون بهم الذين بلغتهم الدعوة، وهذا التحمُّل ليس تفضُّلاً، إنما تكليف من الله، لذلك قال سبحانه:
{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]، فكما شهد الرسول أنه بلغكم، فواجب عليكم أنْ تشهدوا على الناس أنكم بلَّغتموهم؛ لأن المؤمنين بالرسالة امتداد للرسول.
لذلك، رأينا هذا الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لإعلاء كلمة الحق وتأييد الرسل لم يكن رسولاً ولم يكلِّفه أحد بهذا، إنما تطوَّع به؛ لأن طاقة الإيمان عنده دفعته إلى هذا الموقف.