التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ} (21)

{ واضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ 13 إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا( 1 ) بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ 14 قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ومَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ 15 قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ 16 ومَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ 17 قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ولَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ 18 قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم ( 2 ) بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ( 3 ) 19 وجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ 20اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وهُم مُّهْتَدُونَ 21 ومَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي( 4 ) وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 22 أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ولاَ يُنقِذُونِ 23 إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ 24 إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ 25 قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ 26 بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ 27* ومَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء ومَا كُنَّا مُنزِلِينَ 28 إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ29 } [ 13 29 ]

الآيات معطوفة على سابقاتها والضمير في { واضرب لهم } عائد إلى الكفار الذين حكت الآيات السابقة موقفهم من الدعوة كما المتبادر . وهكذا يكون هذا الفصل قد جاء معقبا على سابقه تعقيب تمثيل وتذكير ، وفيه توثيق للتأويل الذي أوّلناه للآيات التي حكت موقف الجاحدين والتخمين الذي خمّنّاه بنزول الفصل السابق في ظرف أزمة من أزمات النبي صلى الله عليه وسلم النفسية لموقف مثير وقفه الكفار .

وعبارة الآيات واضحة لا تقتضي أداء آخر . وقد احتوت قصة رسل أرسلهم الله إلى إحدى المدن وموقف أهلها الجحودي منهم ، سيقت لسامعي القرآن أو الكافرين منهم على ما هو المتبادر للتمثيل والتذكير .

ومما رواه المفسرون عزوا إلى علماء التابعين في صدد قصة الرسل التي حكتها الآيات : أن المدينة التي أشير إليها باسم القرية هي أنطاكية الثغر الشامي في شمال سورية ، وأن الرسل هم يوحنا وبولس وشمعون من حواريي عيسى عليه السلام أرسلهم للدعوة والتبشير ، وأن الرجل المؤمن هو حبيب النجار . وقد أوردوا بيانات كثيرة عن رسالة الرسل ومحاولاتهم مع الوثنيين في المدينة ومعجزاتهم في إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وإبراء الأكمة والأبرص ، وقتل الوثنيين حبيبا وعنادهم مع الرسل الخ{[1742]} .

وأسلوب الآية الأولى وفحواها يلهمان أن المثل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضربه ليس غريبا عن السامعين وأنهم أو أن منهم من كان يعرف القصة المذكورة فيه .

ولقد ورد في سفر أعمال الرسل من الأسفار الملحقة بالأناجيل أشياء كثيرة عن نشاط تلامذة المسيح عليه السلام وحوارييه من بعده في أنطاكية وغيرها . فمن المحتمل جدّا أن تكون القصة مما كان يتداوله النصارى الذين كان منهم أفراد كثيرون في مكة ، ولعلها كانت مكتوبة في أسفار عندهم فعرفها العرب منهم .

وأسلوب الآيات صريح في أن المقصود منها المثل والتذكير والعبرة وهذا هو الهدف العام لكل القصص القرآنية الذي يكون محكما مؤثرا حينما تكون القصة المساقة مما يعرفه السامعون . وفيما أورده المفسرون دلالة على ذلك كما هو المتبادر .

تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته

ومما يلحظ أن في حكاية الحوار بين رسل الله وأهل القرية ، ثم بين أهل القرية والمؤمن تشابها مع حالة الكفار العرب سواء أفي ما كان من سخفهم وضلالهم في اتخاذ آلهة غير الله أم في موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وأقوالهم له في معرض التكذيب والجحود ، أم في تهديدهم لرسلهم بالعذاب والأذى إذا لم يكفوا عن دعوتهم بحيث تبدو في هذه الملحوظات حكمة المثل وهدفه وهو تذكير الكفار العرب بأنهم ليسوا المتفردين في مواقفهم وأقوالهم وباطل عقائدهم ، وتبكيتهم على ما هم فيه من سخف وضلال وعناد ، وإنذارهم بعذاب الله الذي أصاب أمثالهم فجعلهم خامدين دون ما حاجة إلى جنود تنزل وحرب تنشب ، وتطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس المتفرّد فيما لقي من كفار قومه ، وأن له الأسوة بمن تقدمه من الرسل في الأزمنة القديمة أو الحديثة بالنسبة لزمنه فلا يحزن ولا يغتمّ وأنه ليس عليه إلاّ التبليغ والتذكير مثلهم .

وأسلوب حكاية موقف المؤمن وأقواله لقومه قوي أخاذ . سواء أفي تبكيته وتسفيهه للمعاندين أم في إغرائه وتشويقه على الإيمان بالله وتصديق رسله ومن شأن ذلك أن يحدث أثرا نافذا في السامعين . وهذا ما استهدفته الحكاية على ما هو المتبادر . ولعلّ من أثرها ما روته روايات السيرة من تفاني الرعيل الأول من المسلمين في مكة في نصرة وتأييد النبي صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه والتعرّض بسبب ذلك لصنوف الأذى . وفيها أسوة وحافز على نصرة الحق والداعين إليه في كل موقف وزمان .


[1742]:انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن مثلا.