{ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } أى : دائمين فى إصلاح ما يصلحان من الأبدان والنبات وغيرهما أو دائمين فى مدارهما المقدر لهما بدون اضطراب أو اختلال . ولا يفتران عن ذلك ما دامت الدنيا .
وأصل الدأب : الدوام والعادة المستمرة على حالة واحدة . يقال : دأب فلان على كذا يدأب دأبا ، إذا داوم عليه وجد فيه .
و { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار } بأن جعلهما متعاقبين ، يأتى أحدهما فى أعقاب الآخر ، فتنتفعون بكل منهما بما يصلح أحوالكم .
فالليل تنتفعون به فى راحتكم ومنامكم . . والنهار تنتفعون به فى معاشكم وطلب رزقكم قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً . وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً }
و سخر لكم الشمس والقمر دائبين . . لا يستخدمهما الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمار والبحار والفلك والأنهار . . ولكنه ينتفع بآثارهما ، ويستمد منهما مواد الحياة وطاقاتها . فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه بل في تركيب خلاياه وتجديدها .
( وسخر لكم الليل والنهار ) . .
سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه ، وما يناسب نشاطه وراحته . ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان ؛ فضلا على فساد ما حوله كله ، وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه .
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ } أي : يسيران لا يقران{[15953]} ليلا ولا نهارا ، { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] ، فالشمس والقمر يتعاقبان ، والليل والنهار عارضان{[15954]} فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول ، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر ، { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{[15955]} ( 4 ) } [ لقمان : 29 ] ، وقال تعالى : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } [ الزمر : 5 ] .
و { دائبين } معناه : متماديين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الجمل الذي بكى وأجهش عليه : «إن هذا الجمل شكى إلي أنك تجيعه وتديبه » ، أي تديمه في الخدمة والعمل - وظاهر الآية أن معناه : دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة . وحكى الطبري عن مقاتل بن حيان يرفع إلى ابن عباس أنه قال : معناه : دائبين في طاعة الله - وهذا قول إن كان يراد به - أن الطاعة انقياد منهما في التسخير ، فذلك موجود في قوله : { سخر } وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر ، فهذا جيد ، والله أعلم .
تسخير الشمس والقمر خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما ، وضبط أوقاتهم بسيرهما .
ومعنى { دائبين } دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك .
والفلك : جمع لفظه كلفظ مفرده . وقد تقدم عند قوله تعالى : { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } في سورة البقرة ( 164 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} إلى يوم القيامة، {وسخر لكم الليل والنهار}، في هذه منفعة لبني آدم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: اللّهُ الذِي خلقَ السموَاتِ وَالأرْضَ وفعل الأفعال التي وصف. "وَسَخّرَ لَكُمُ الشّمْسَ والقَمَرَ "يتعاقبان عليكم أيها الناس بالليل والنهار لصلاح أنفسكم ومعاشكم. "دَائِبَيْنِ" في اختلافهما عليكم. وقيل: معناه: أنهما دائبان في طاعة الله...
وقوله: "وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ والنّهارَ" يختلفان عليكم باعتقاب، إذا ذهب هذا جاء هذا بمنافعكم وصلاح أسبابكم، فهذا لكم لتصرّفكم فيه لمعاشكم، وهذا لكم للسكن تسكنون فيه، ورحمة منه بكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 32]
دلالة أن تدبير الله متسق محيط بجميع ما في السماوات والأرض، وعلمه محيط بجميع الخلائق حين ذكر: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم} يعني البشر. جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بُعد ما بينهما، دل أنه عن تدبير فعل هذا وعلم، وأنه تدبير واحد عليم قدير. ثم ما ذكر من تسخير السماوات والأرض مع شدة السماء وصلابتها وغلظ الأرض وكثافتها، وتسخير البحر مع أهواله وأمواجه وتسخير الأنهار الجارية وتسخير الشمس والقمر والليل والنهار لهذا البشر في ذلك كله وجهان:
أحدهما: يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم من المنافع التي جعل لهم في تسخير هذه الأشياء التي ذكر لهم على جهل هذه الأشياء أنهن مسخرات لغيرهم ليستأدي بذلك شكرها.
والثاني: يذكر سلطانه وقدرته حين سخر هذه الأشياء مع شدتها وصلابتها وغلظها وأهوالها. ومن قدر على تسخير ما ذكر فهو قادر على البعث والإحياء بعد الموت. ويحتمل ما ذكر من تسخير الأشياء التي ذكر أمرين:
أحدهما: أنه أنشأ هذه الأشياء مسخرة مذللة لنا.
والثاني: أنه سخر لنا، أي علمنا من الأسباب والحيل التي تتهيأ لنا الانتفاع بها والتسخير...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وسخر لكم الشمس والقمر دائبين" معناه ذلل لكم الشمس والقمر ومهدهما لمنافعكم... دائبين، لا يفتران، في صلاح الخلق والنبات، ومنافعهم.
"وسخر لكم الليل والنهار" أي ذللهما لكم، ومهدهما لمنافعكم، لتسكنوا في الليل، وتبتغوا في النهار من فضله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {دائبين} معناه: متماديين... وظاهر الآية أن معناه: دائبين في الطلوع والغروب وما بينهما من المنافع للناس التي لا تحصى كثرة...
قال المفسرون: قوله: {دائبين} معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار. والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبعه ما جعله سبباً لكمال التصرف وإنضاج الثمار المسقيّة بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض فقال: {وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين} أي في سيرهما وإنارتهما وما ينشأ عنهما من الإصلاح بالطبخ والإنضاج في المعادن والنبات والحيوان... ثم ذكر تعالى ما ينشأ عن وجود الشمس وعدمها فقال: {وسخر لكم الّيل} أي الذي القمر آيته {والنهار} أي الذي الشمس آيته، يوجد كل منهما بعد تصرمه، ولو كان أحدهما سرمداً لاختل الحال بعدم النبات والحيوان كما هو كذلك حيث لا تغرب الشمس في الجنوب وحيث لا تطلع في الشمال...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهاً لشأنها وتنبيهاً على رفعة مكانِها وتنصيصاً على كون كل منها نعمةً جليلةً مستوجبةً للشكر، وفي التعبير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المِحال ما لا يخفى، وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بينه وبين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وسخر لكم الليل والنهار).. سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه، وما يناسب نشاطه وراحته. ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان؛ فضلا على فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تسخير الشمس والقمر خلقهما بأحوال ناسبت انتفاع البشر بضيائهما، وضبط أوقاتهم بسيرهما. ومعنى {دائبين} دائبين على حالات لا تختلف إذ لو اختلفت لم يستطع البشر ضبطها فوقعوا في حيرة وشك...
{وسخّر لكم الليل والنهار} وبما أن الشمس آية نهارية، والقمر آية ليلية، والنهار يسبق الليل في الوجود بالنسبة لنا. كان مُقتضى الكلام أن يقول: سخر لكم النهار والليل. ولكن الحق سبحانه أراد أن يُعلمنا أن القمر وهو الآية الليلية، ويسطع في الليل، والليل مخلوق للسكون، لكن هذا السكون ليس سببا لوجود الإنسان على الأرض، بل السبب هو أن يتحرك الإنسان ويستعمر الأرض ويكدّ ويكدح فيها. لذلك جعل استهلال الشمس أولا والقمر يستمد ضوءه منها، ثم جاء بخبر الليل وخبر النهار، فكأن الله قد اكتنف هذه الآية بنورين:
والنور الثاني: من القمر، كي يعلم الإنسان أن حياته مُغلفة تغليفا يتيح له الحركة على الأرض، فلا تظننّ أيها الإنسان أن الأصل هو النوم! ذلك أن سبحانه قد خلق النوم لترتاح، ثم تصحو لتكدح...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} لا ينقطعان عن الحركة في النظام الكوني الذي يؤمن الشروط الطبيعيّة لبقاء الحياة على الأرض وفي الجوّ، من خلال هذين الكوكبين اللذين يتدخلان في نظامها المتقن البديع، في أكثر من سرٍّ في حركة الحياة في الكون، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ} في تنظيمهما لحياة الإنسان على القاعدة الثابتة المريحة التي تعطي الجسم راحته وهدوءه في الليل مع ما يؤمنه الظلام من سكونٍ وراحةٍ ووداعة، وإطلاق حركته في تحصيل لقمة العيش مع ما يؤمنه النهار من إشراق النور وانفتاح كل مطالب الإنسان في الحياة. وهكذا تلتقي الرؤية الواعية بالله في الكون، حيث يشعر الإنسان، بأن الله قد أودع فيه الشروط الطبيعية لوجود حياته واستمرارها، وهذا هو معنى تسخير كل الظواهر الكونية للإنسان، بحيث يشعر أن كل ما فيها من عناصر القوة كان رحمةً من الله به، وليس هذا هو كل شيء في مظاهر نعمة الله على الإنسان، بل هناك الظواهر الأخرى المبثوثة في كل مكان من حوله، وفي داخل جسمه، مما أعدّه الله للإنسان، لينعم به في كل ما يحتاج إليه...