بعد أن ألقمهم حجرا بنصاعة حجته ، فلجأوا إلى التمسح بآبائهم فقالوا : { بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } .
أى : قالوا له : إن هذه الأصنام هى كما قلت يا إبراهيم لا تسمع دعاءنا ، ولا تنفعنا ولا تضرنا ، ولكننا وجدنا آباءنا يعبدونها ، فسرنا على طريقتهم فى عبادتها ، فهم قالوا ما قاله أمثالهم فى الجهالة فى كل زمان ومكان { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }
( قالوا : بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) . .
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع . ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها ، فعكفنا عليها وعبدناها !
وهو جواب مخجل . ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه ، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه . فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث ؛ بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم ، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء ، ويقروا أنهم كانوا على ضلال . وهذا مالا يجوز في حق الذاهبين ! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء فى وجه الحق ، فيؤثرونها على الحق ، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس ، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير .
{ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } يعني : اعترفوا بأن{[21754]} أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك ، وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون ، فهم على آثارهم يُهرعون .
{ بل } في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام ، فلما طوَوا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفادياً من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف .
وقوله : { كذلك يفعلون } تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : يفعلون فعلاً كذلك الفعلِ . وقدم الجار والمجرور على { يفعلون } للاهتمام بمدلول اسم الإشارة .
واقتصرَ إبراهيم في هذا المقام ( الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه للدعوة ) على أنْ أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال : { فإنهم عدوٌّ لي } لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضرّ وإلاّ لضَرَّته لأنه عدُوّها .
وضمير { فإنهم } عائد إلى { ما كنتم تعبدون } . وقوله : { وآباءكم } عطف على اسم { كنتم } . والعدوّ : مشتق من العُدوان ، وهو الإضرار بالفعل أو القول . والعدوّ : المُبغض ، فعدوّ : فعول بمعنى فاعل يُلازم الإفراد والتذكير فلا تلحقه علامات التأنيث ( إلا نادراً كقول عمر لنساء من الأنصار : يا عدوات أنفسهن ) . قال في « الكشاف » : حملاً على المصدر الذي على وزن فَعول كالقبول والولوع .
والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة . ولذلك فقوله { فإنهم عدو لي } من قبيل التشبيه البليغ ، أي هم كالعدوّ لي في أني أُبغِضهم وأُضرهم . وهذا قريب من قوله تعالى : { إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدواً } [ فاطر : 6 ] أي عاملوه معاملة العدوِّ عدوَّه . وبهذا الاعتبار جُمع بني قوله { لكم عدوّ } [ فاطر : 6 ] وقوله : { فاتخذوه عدوّاً } [ فاطر : 6 ] .
والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله : { فإنهم } دون ( فإنَّها ) جرْي على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام لأنهم يعتقدونها مدركة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَمَّا تَرَكَ، وَذَلِكَ جَوَابُهُمْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُمْ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} فَكَانَ جَوَابُهُمْ إِيَّاهُ: لَا، مَا يَسْمَعُونَنَا إِذَا دَعَوْنَاهُمْ، وَلَا يَنْفَعُونَنَا وَلَا يَضُرُّونَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ أَجَابُوهُ. قَوْلُهُمْ: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وَذَلِكَ رُجُوعٌ عَنْ مَجْحُودٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا كَانَ كَذَا بَلْ كَذَا وَكَذَا. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وَجَدْنَا مَنْ قَبْلِنَا ، وَلَا يَضُرُّونَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ أَجَابُوهُ قَوْلَهُمْ مِنْ آبَائِنَا يَعْبُدُونَهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا لِخِدْمَتِهَا وَعِبَادَتِهَا، فَنَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِهِمْ، وَاتِّبَاعًا لِمِنْهَاجِهِمْ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لما عرفوا أن تلك التي عبدوها، لا تملك ضرا ولا نفعا، لكنهم عبدوها تقليدا لآبائهم لما وقع عندهم أن آباءهم ما عبدوها إلا بأمر؛ إذ لو لم يكن ذلك بأمر لتركوا. لكن قد ذكرنا أن من آبائهم من لم يعبدها قط، ثم لم يقلدوهم، فكيف قلدوا أولئك؟ دل أن الاعتلال فاسد.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: أنها لا تسمع أقوالنا، ولا تجلب إلينا نفعا، ولا تدفع عنا ضرا، لكن اقتدينا بآبائنا، واستدل أهل العلم بهذا على أن التقليد لا يجوز.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لما أجابوه بجواب المقلدين لآبائهم قال لهم: رقوا أمر تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته وهي عبادة الأقدمين الأوّلين من آبائكم، فإن التقدّم والأوّلية لا يكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم. وما عبادة من عبد هذه الأصنام إلا عبادة أعداء له، ومعنى العداوة قوله تعالى: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] ولأنّ المغري على عبادتها أعدى أعداء الإنسان وهو الشيطان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقولهم بل {وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}، أقبح وجوه التقليد لأنه على ضلالة وفي أمر بين خلافه وعظيم قدره.
فعند هذه الحجة القاهرة لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى أن قالوا: {وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال، إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحا لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذما لطريقة إبراهيم عليه السلام التي مدحها الله تعالى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالوا}: لا والله! ليس عندهم شيء من ذلك {بل وجدنا آباءنا كذلك} أي مثل فعلنا هذا العالي الشأن، ثم صوروا حالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم فقالوا: {يفعلون} أي فنحن نفعل كما فعلوا لأنهم حقيقون منا بأن لا نخالفهم، مع سبقهم لنا إلى الوجود، فهم أرصن منا عقولاً، وأعظم تجربة، فلولا أنهم رأوا ذلك حسناً، ما واظبوا عليه، هذا مع أنهم لو سلكوا طريقاً حسية حصل لهم منها ضرر حسي ما سلكوها قط، ولكن هذا الدين يهون على الناس فيه التقليد بالباطل قديماً وحديثاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).. إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها! وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث؛ بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا مالا يجوز في حق الذاهبين!
وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء فى وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{بل} في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام، فلما طوَوا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفادياً من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف.
وقوله: {كذلك يفعلون} تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف، والتقدير: يفعلون فعلاً كذلك الفعلِ. وقدم الجار والمجرور على {يفعلون} للاهتمام بمدلول اسم الإشارة.
واقتصرَ إبراهيم في هذا المقام (الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه للدعوة) على أنْ أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال: {فإنهم عدوٌّ لي} لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضرّ وإلاّ لضَرَّته لأنه عدُوّها.
وضمير {فإنهم} عائد إلى {ما كنتم تعبدون}. وقوله: {وآباءكم} عطف على اسم {كنتم}. والعدوّ: مشتق من العُدوان، وهو الإضرار بالفعل أو القول. والعدوّ: المُبغض...
والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة. ولذلك فقوله {فإنهم عدو لي} من قبيل التشبيه البليغ، أي هم كالعدوّ لي في أني أُبغِضهم وأُضرهم. وهذا قريب من قوله تعالى: {إن الشيطان لكم عدوّ فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6] أي عاملوه معاملة العدوِّ عدوَّه. وبهذا الاعتبار جُمع بني قوله {لكم عدوّ} [فاطر: 6] وقوله: {فاتخذوه عدوّاً} [فاطر: 6].
والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله: {فإنهم} دون (فإنَّها) جرْي على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام لأنهم يعتقدونها مدركة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إلاّ أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائماً، ف (قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون).
وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردّوا به على إبراهيم (عليه السلام)، وهو جواب دليلُ بطلانه كامنٌ فيه، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفَو أثرَ غيره ويصم أُذنيه ويغمضُ عينيه، ولاسيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!...
والتعبير ب (كذلك يفعلون) تأكيد أكثر على تقليدهم، أي نفعل كما كانوا يفعلون، سواءً عبدوا الأصنام أم سواها.