ثم بين - سبحانه - أن ما فيه هؤلاء المجرمون من متاع ونعمة، سينسونه نسيانًا تاما عندما يمسهم العذاب المعد لهم، فقال - تعالى -: { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } .
وقوله : { أَفَرَأَيْتَ } معطوف على قوله : { فَيَقُولُواْ . . } والاستفهام للتعجب من أحوالهم .
والمعنى : إن شأن هؤلاء المجرمين لموجب للعجب : إنهم قبل نزول العذاب بهم يستعجلونه ، فإذا ما نزل بساحتهم قالوا - على سبيل التحسر والندم - : هل نحن منظرون .
اعلم - أيها الرسول الكريم - أننا حتى لو أمهلناهم وأخرناهم ، ثم جاءهم عذابنا بعد ذلك ، فإن هذا التمتع الذى عاشوا فيه ، وذلك التأخير الذى لو شئنا لأجبناهم إليه . . . كل ذلك لن ينفعهم بشىء عند حلول عذابنا ، بل عند حلول عذابنا بهم سينسون ما كانوا فيه من متاع ومن نعيم ومن غيره .
قال الإمام ابن كثير : وفى الحديث الصحيح : يؤتى بالكافر فيغمس فى النار غمسة ثم يقال له : هل رأيت خيراً قط ؟ فيقول : لا والله يا رب . ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان فى الدنيا ، فيصبغ فى الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا والله يا رب .
ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يتمثل بهذا البيت :
كأنك لم تُؤتَر من الدهر ليلة . . . إذا أنت أدركت الذى كنت تطلب
ولقد كانوا يستعجلون عذاب الله ، على سبيل الاستهزاء والاستهتار ، واغترارا بما هم فيه من متاع ، يبلد حسهم ، ويجعلهم يستبعدون النقلة منه إلى العذاب والنكال . شأنهم شأن ذوي النعمة قلما يخطر ببالهم أن تزول ؛ وقلما يتصورون أن تحول . فهو يوقظهم هنا من هذه الغفلة ، ويرسم لهم صورتهم حين يحل بهم ما يستعجلون :
( أفبعذابنا يستعجلون ? أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون . ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) . .
فيضع صورة الاستعجال بالعذاب في جانب . وفي الجانب الآخر تحقق الوعيد . وإذا سنون المتاع ساقطة كأنها لم تكن ، لا تغني عنهم شيئا ، ولا تخفف من عذابهم .
وفي الحديث الصحيح : " يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط ? هل رأيت نعيما قط ? فيقول : لا والله يا رب . ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ? فيقول : لا والله يا رب
ثم قال : { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } أي : لو أخرناهم وأنظرناهم ، وأملينا لهم برهة من الزمان وحينًا من الدهر وإن طال ، ثم جاءهم أمر الله ، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعم ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وقال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ } [ البقرة : 96 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } [ الليل : 11 ] ؛ ولهذا قال : { مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } .
وفي الحديث الصحيح : " يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة{[21872]} ، ثم يقال له : هل رأيت خيرًا قط ؟ هل رأيت نعيمًا قط ؟ فيقول : لا [ والله يا رب ]{[21873]} . ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسًا قط ؟ فيقول : لا والله يا رب " أي : ما كأن شيئًا كان{[21874]} ؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت :
كأنَّك لَمْ تُوتِر من الدّهْر لَيْلَةً *** إذا أنْتَ أدْرَكْتَ الذي كنتَ تَطْلُبُ
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ إِن مّتّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون على كفرهم بآياتنا ، وتكذيبهم رسولنا ، ما أغْنَى عَنْهُمْ يقول : أيّ شيء أغنى عنهم التأخير الذي أخّرنا في آجالهم ، والمتاع الذي متعناهم به من الحياة ، إذ لم يتوبوا من شركهم ، هل زادهم تمتيعنا إياهم ذلك إلا خبالاً ، وهل نفعهم شيئا ، بل ضرّهم بازديادهم من الاَثام ، واكتسابهم من الإجرام ما لو لم يمتعوا لم يكتسبوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أفَرأيْتَ إنْ مَتّعْناهُمْ سِنينَ إلى قوله ما أغْنَى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتّعُونَ قال : هؤلاء أهل الكفر .
ولما كان استعجالهم بالعذاب مقتضياً أنهم في مُهلة منه ومتعة بالسلامة وأن ذلك يغرهم بأنهم في منجاة من الوعيد الذي جاءهم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم جابههم بجملة : { أفرأيت إن متعناهم سنين } .
الاستفهام في { أفرأيت إن متعناهم } للتقرير . و { ما } في قوله : { ما أغنى عنهم } استفهامية وهو استفهام مستعمل في الإنكار ، أي لم يغن عنهم شيئاً . والرؤية في { أفرأيت } قلبية ، أي أفعلمت . والخطاب لغير معين يعمّ كل مخاطب حتى المجرمين .
وجملة : { إن متّعناهم سنين } معترضة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما سدّ مسدّ مفعولي ( رأيت ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.