قوله - سبحانه - : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } بيان لحال فرعون قبل أن يهلكه الله - تعالى - بالغرق .
أى : وأضل فرعون فى حياته قومه عن طريق الحق ، وما هداهم إليها وإنما هداهم إلى طريق الغى والباطل ، فكانت عاقبتهم جميعا الاستئصال والدمار .
وما اشتملت عليه الآيتان من إجمال بالنسبة لتلك الأحداث ، قد جاء مفصلا فى آيات أخرى ومن ذلك قوله - تعالى - فى سورة الشعراء : { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين }
" وَأضَلّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدَى " يقول جلّ ثناؤه : وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل ، وأخذ بهم على غير استقامة ، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار ، بأمرهم بالكفر بالله ، وتكذيب رسله وَما هَدَى يقول : وما سلك بهم الطريق المستقيم ، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى ، والتصديق به ، فأطاعوه ، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك ، ولم يهتدوا باتباعهم إياه .
جملة { وأضلّ فرعونُ قومه } في موضع الحال من الضمير في { غَشِيَهُمْ } . والإضلال : الإيقاع في الضلال ، وهو خطأ الطريق الموصّل . ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعَمَل ما فيه ضرّ وهو المراد هنا . والمعنى : أنّ فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بثّ فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب ، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام .
وعَطْفُ { وما هدى } على { أضلّ } : إما من عطف الأعمّ على الأخص لأنّ عدم الهدى يصدق بترك الإرشاد من دون إضلال ؛ وإما أن يكون تأكيداً لفظياً بالمرادف مؤكداً لنفي الهدى عن فرعون لقومه فيكون قوله { وما هدى تأكيداً لأضلّ } بالمرادف كقوله تعالى : { أموات غير أحياء } [ النحل : 21 ] وقول الأعشى :
حفاة لا نعال لنا . . . » من قوله :
إمّا تَرَيْنَا حُفَاةً لا نِعال لنا *** إنّا كذلكِ ما نحفَى وننتعل
وفي « الكشاف » : إن نكتة ذكر { وما هدى } التهكم بفرعون في قوله { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } اهـ . يعني أن في قوله { وما هدى } تلميحاً إلى قصة قوله المحكي في سورة غافر ( 29 ) : { قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } وما في هذه من قوله { بطريقتكم المثلى } [ طه : 63 ] ، أي هي هَدْي ، فيكون من التلميح إلى لفظ وقع في قصة مفضياً إلى التلميح إلى القصة كما في قول مُهلهل :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: وجاوز فرعون بقومه عن سواء السبيل، وأخذ بهم على غير استقامة، وذلك أنه سلك بهم طريق أهل النار، بأمرهم بالكفر بالله، وتكذيب رسله، "وَما هَدَى "يقول: وما سلك بهم الطريق المستقيم، وذلك أنه نهاهم عن اتباع رسول الله موسى، والتصديق به، فأطاعوه، فلم يهدهم بأمره إياهم بذلك، ولم يهتدوا باتباعهم إياه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وأضل فرعون قومه وما} هداهم حين قال: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}...
. {وأضل فرعون قومه وما هدى} نفسه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
يعني: ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون في قوله {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا هدى} تهكم به في قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأضل فرعون} على تحذلقه {قومه} مع ما لهم من قوة الأجساد ومعانيها.
ولما كان إثبات الفعل لا يفيد العموم، نفى ضده ليفيده مع كونه أوكد وأوقع في النفس وأروع لها فقال: {وما هدى} أي ما وقع منه شيء من الهداية، لا لنفسه ولا لأحد من قومه، فتم الدليل الشهودي على تمام القدرة على إنجاء الطائع وإهلاك العاصي.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا عاقبة الكفر والضلال، وعدم الاهتداء بهدي الله، ولهذا قال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} بما زين لهم من الكفر، وتهجين ما أتى به موسى، واستخفافه إياهم، وما هداهم في وقت من الأوقات، فأوردهم موارد الغي والضلال، ثم أوردهم مورد العذاب والنكال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... وقاد فرعون قومه إلى الضلال في الحياة كما قادهم إلى الضلال والبحر. وكلاهما ضلال يؤدي إلى البوار. ولا نتعرض نحن لتفصيلات ما حدث في هذا الموضع، كي نتابع السياق في حكمة الإجمال. إنما نقف أمام العبرة التي يتركها المشهد ونتسمع لإيقاعه في القلوب.. لقد تولت يد القدرة إدارة المعركة بين الإيمان والطغيان فلم يتكلف أصحاب الإيمان فيها شيئا سوى اتباع الوحي والسري ليلا. ذلك أن القوتين لم تكونا متكافئتين ولا متقاربتين في عالم الواقع.. موسى وقومه ضعاف مجردون من القوة، وفرعون وجنده يملكون القوة كلها. فلا سبيل إلى خوض معركة مادية أصلا. هنا تولت يد القدرة إدارة المعركة. ولكن بعد أن اكتملت حقيقة الإيمان في نفوس الذين لا يملكون قوة سواها. بعد أن استعلن الإيمان في وجه الطغيان لا يخشاه ولا يرجوه؛ لا يرهب وعيده ولا يرغب في شيء مما في يده.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإضلال: الإيقاع في الضلال، وهو خطأ الطريق الموصّل. ويستعمل بكثرة في معنى الجهالة وعَمَل ما فيه ضرّ وهو المراد هنا. والمعنى: أنّ فرعون أوقع قومه في الجهالة وسوء العاقبة بما بثّ فيهم من قلب الحقائق والجهل المركب، فلم يصادفوا السداد في أعمالهم حتى كانت خاتمتها وقوعهم غرقى في البحر بعناده في تكذيب دعوة موسى عليه السلام.
فأين سبيل الرشاد الذي تحدث عنه فرعون بعد أن أطبق الله عليهم البحر؟ لقد سقتهم إلى الهلاك، ولم تسلك بهم مناط النجاة، والهداية. فأنت – إذن كاذب – في ادعاء سبيل الرشاد، لأنك أضللتهم ما هديتهم، وأهلكتهم ما نجيتهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتوضيح ذلك: إنّ القائد قد يخطئ أحياناً، ويجرّ أتباعه إلى طريق منحرف، إلاّ أنّه بمجرّد أن ينتبه إلى خطئه يعيدهم إلى طريق الصواب. إلاّ أنّ فرعون كان عنيداً إلى الحدّ الذي لم يبيّن لقومه الحقيقة حتّى بعد وضوح الضلال ومشاهدته، واستمرّ في توجيه هؤلاء إلى المتاهات حتّى هلك وإيّاهم. وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الجملة تنفي كلام فرعون الوارد في الآية (29) من سورة غافر حيث يقول: (وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد)، فإنّ هذه الحوادث بيّنت أنّ هذه الجملة كذبة كبيرة كأكاذيبه الأخرى.