تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٖۗ قَالَ إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (54)

{ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } وهم الأعداء الذين لهم السطوة والغلبة ، ويريدون إطفاء ما معه من النور ، بأي طريق كان ، وهو غير مكترث منهم ، ولا مبال بهم ، وهم عاجزون لا يقدرون أن ينالوه بشيء من السوء ، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .

وقولهم : { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ } أي : لا نترك عبادة آلهتنا لمجرد قولك ، الذي ما أقمت عليه بينة بزعمهم ، { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } وهذا تأييس منهم لنبيهم ، هود عليه السلام ، في إيمانهم ، وأنهم لا يزالون في كفرهم يعمهون .

{ إِنْ نَقُولُ } فيك { إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } أي : أصابتك بخبال وجنون ، فصرت تهذي بما لا يعقل . فسبحان من طبع على قلوب الظالمين ، كيف جعلوا أصدق الخلق الذي جاء بأحق الحق ، بهذه المرتبة ، التي يستحي العاقل من حكايتها عنهم لولا أن الله حكاها عنهم .

ولهذا بين هود ، عليه الصلاة والسلام ، أنه واثق غاية الوثوق ، أنه لا يصيبه منهم ، ولا من آلهتهم أذى ، فقال : { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا } أي : اطلبوا لي الضرر كلكم ، بكل طريق تتمكنون بها مني { ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } أي : لا تمهلوني .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٖۗ قَالَ إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (54)

ثم أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافا به وبما يدعو إليه فقالوا : " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . "

ومعنى اعتراك : أصابك ومسك . يقال عراه الأمر واعتراه أى أصابه ، وأصله من قولهم : عراه يعروه ، أى : غشية وأصابه . ومنه قول الشاعر :

وإنى لتعرونى لذكراك هزة . . . . . أى : تصيبنى .

أى : ما نحن تباركى آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمتبعين ، بل عليك أن تيأس يأسا تاما من استجابتنا لك ، وحالتك التى نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك : إن سبك لآلهتنا جعل بعضها - لا كلها - يتسلط عليك ، ويوجه قدرته نحوك ، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض .

ولم يقولوا : " اعتراك آلهتنا بسوء " بل قالوا : { بَعْضُ آلِهَتِنَا } تهديدا له وإشارة إلى أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا .

وهذكا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود ، تدرجوا فيها من السئ إلى الأسوأ ، ومن القبيح إلى الأقبح . . مما يدل على توغلهم فى الطغيان ، وبلوغهم النهاية فى العناد والكفر والجحود .

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . "

أى : مسك بجنون لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم صرت تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين .

ثم قال . وقد دلت ردودهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد .

وهذا الأخير دال على جهل مفرط ، وبله متناه ، حيث اعقتدوا فى حجارة أنها تنتصر وتنقم . . .

والآن بعد أن استمع هود - عليه السلام - إلى ردودهم القبيحة ماذا كان موقفه منهم ؟

لقد كان موقفه منهم : موقف المتبرئ من شركهم ، والمتحدى لطغيانهم والمعتمد على الله - تعالى - وحده فى الانتصار عليهم ، ولقد حكى القرآن رده علهيم فقال :

{ قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }

أى : قال هود - عليه السلام - للطغاة من قومه بعزة وثقة { قَالَ إني أُشْهِدُ الله } الذى لا رب سواه على براءتى من عبادتكم لغيره .

{ واشهدوا } أنتم أيضا على { أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .

أى : على براءتى من كل عبادة تعبدونها لغير الله - تعالى - لأنها عبادة باطلة . يحتقرها العقلاء ، ويتنزه عنها كل إنسان يحترم نفسه .

فأنت تراه فى هذه الآية الكريمة يعلن احتقاره لآلهتهم ، وبراءته من شركهم ، واستخفافه بأصنامهم التى زعموا أن بعضها قد أصابوا بسوء ، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله - تعالى - وإشهادهم .

وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا ، وقلت فى حقك كذا وكذا . . فافعل أنت ما بدا لك ! ! .