الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱلَّذِي هُوَ يُطۡعِمُنِي وَيَسۡقِينِ} (79)

{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } يعني يرزقني ويربيني .

وقال أبو العباس بن عطاء : يعني يطعمني أيّ طعام شاء ، ويسقيني أيّ شراب شاء .

قال محمد بن كثير العبدي : صحبت سفيان الثوري بمكة دهراً فكان يستف من السبت الى السبت كفّاً من رمل .

وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا الحسن محمد بن علي بن الشاه يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن حمدان يقول : سمعت الحجاج بن عبد الكريم يقول : خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فرأيته بحمص في أتون يسجّرها فسلّمت عليه وسألته عن حاله ، فردّ عليَّ السلام وسألني عن حالي وحال أقربائه ، فكنت معه يومه ذلك فقال : لعلّ نفسك تنازعك الى شيء من طعام ؟ فقلت : نعم فأخذ رماداً وتراباً فخلطهما وأكلهما ثمَّ أقبل بوجهه عليَّ وانشأ يقول :

اخلط الترب بالرماد وكُلْه *** وازجر النفس عن مقام السؤالِ

فإذا شئت ان تقبّع بالذلّ *** فرم ما حوته أيدي الرجال

فخرجت من عنده فمكثت أياماً لم أدخل عليه فاشتدّ شوقي إليه ، فدخلت عليه وكنت عنده فلم يتكلّم بشيء فقلت له : لِمَ لا تكلّم ؟ فقال :

مُنع الخطاب لأنه سبب االردى *** والنطق فيه معادن الآفاتِ

فإذا نطقتَ فكن لربّك ذاكراً *** وإذا سكتَّ فعدّ جسمك مات

قال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب ، ومجازها : يشبعني ويرويني من غير علاقة ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم :

" إنّى أبيت يطعمني ربّي ويسقيني " . يدلّ عليه حديث السقاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يقرأ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } فرمى بقربته ، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنّة فسقاه .

قال أنس : فعاش بعد ذلك نيّفاً وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته .

وقال علي بن قادم : كان عبد الرَّحْمن بن أبي نعم لا يأكل في الشهر إلاّ مرَّة ، فبلغ ذلك الحجاج فدعاه وأدخله بيتاً وأغلق عليه بابه ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً ولم يشكّ أنّه مات فوجده قائماً يصلّي فقال : يا فاسق تُصلّي بغير وضوء فقال : إنّما يحتاج الى الوضوء مَن يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت .

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الاصبهاني يقول : سمعت أبا سعيد الخزاز بمكة يقول : كنت بطرسوس جائعاً ، فاشتدَّ بي الجوع فجلست على شاطئ النهر ووضعت رجلي في الماء فنوديت : أضجرت من جوعك ؟ هاك شبع الأبد .

قال : فعاش بعده سنين لم يشته طعاماً ولا شراباً ، وكان مع ذاك إذا أراد الاكل والشرب أمكنه .

وبلغني أنّ امرأة اسرت من حلب الى الروم في أيام سيف الدولة علي بن حمدان ، فهربت منهم ومشت مائتي فرسخ لم تطعم شيئاً ، فقدمت الى سيف الدولة فقال لها : كيف قويت على المشي وكيف عشت بلا طعام ؟

فقالت : كنتُ كلّما جعت أو أعييت أقرأ

{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ثلاث مرّات فأشبع وأروى وأقوى .

وسمعت أبا القاسم ؟ يقول : سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول : سمعت أبا بكر الشبلي يقول : في الخبز لطيفة تشبعك لا الخبز ، ولو شاء لأبقى فيك تلك اللطيفة حتى لا تحتاج الى الخبز .

وقال ذو النون المصري : يطعمني طعام المحبّة ويسقيني شراب المحبّة . ثم أنشأ يقول :

شراب المحبّة خير الشراب *** وكلّ شراب سواه سراب

وسمعت ابن حبيب يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول : سمعت عمّي يقول : سمعت أبا يزيد البسطامي يقول : إنَّ لله شراباً يقال له شراب المحبّة ادّخرهُ لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، فإذا سكروا طاشوا ، فإذا طاشوا طاروا ، فإذا طاروا وصلوا ، فإذا وصلوا اتصلوا ، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

وقال الجنيد : يُحشر الناس كلّهم عراة إلاّ من لبس لباس التقوى ، وغراثاً إلاّ من أكل طعام المعرفة ، وعطاشى إلاّ من شرب شراب المحبّة .