وقوله : غُلِبَتِ الرّومِ فِي أدْنَى الأرْضِ اختلفت القرّاء في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : غُلِبَتِ الرّومُ بضمّ الغين ، بمعنى : أن فارس غَلَبت الروم . وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن الحسن الجفريّ ، عن سليط ، قال : سمعت ابن عمر يقرأ «الم غَلَبَتِ الرّومُ » فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ، على أيّ شيء غَلَبوا ؟ قال : على ريف الشام .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره الم غُلِبَتِ الرّومُ بضم الغين ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : غلبت فارس الروم فِي أدْنَى الأرْضِ من أرض الشام إلى أرض فارس وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ يقول : والروم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سنِينَ لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ غلبتهم فارس وَمِنْ بَعْدُ غلبتهم إياها ، يقضي في خلقه ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ويظهر من شاء منهم على من أحبّ إظهاره عليه وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يقول : ويوم يغلِب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين ، ونُصْرة الروم على فارس يَنْصُرُ اللّهُ تعالى ذكره مَنْ يَشاءُ من خلقه ، على من يشاء ، وهو نُصرة المؤمنين على المشركين ببدر وَهُوَ العَزِيزُ يقول : والله الشديد في انتقامه من أعدائه ، لا يمنعه من ذلك مانع ، ولا يحول بينه وبينه حائل الرّحِيمُ بمن تاب من خلقه ، وراجع طاعته أن يعذّبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ، أو سعيد الثعلبي الذي يقال له أبو سعد من أهل طَرَسُوس ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كان المسلمون يُحبون أن تغلب الرومُ أهل الكتاب ، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس ، لأنهم أهل الأوثان ، قال : فذكروا ذلك لأبي بكر ، فذكره أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أما إنهُمْ سَيُهْزَمُونَ » ، قال : فذكر ذلك أبو بكر للمشركين ، قال : فقالوا : أفنجعل بيننا وبينكم أجلاً ، فإن غلبوا كان لك كذا وكذا ، وإن غلبنا كان لنا كذا وكذا قال : فجعلوا بينهم وبينه أجلاً خمس سنين ، قال : فمضت فلم يُغلَبوا قال : فذكر ذلك أبو بكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «أفَلا جَعَلْتَهُ دُونَ العَشْرِ » ، قال سعيد : والبِضْع ما دون العشر ، قال : فَغَلَبَ الروم ، ثم غلبت قال : فذلك قوله : الم غُلِبَت الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ قال : البضع : ما دون العشر لِلّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ قال سفيان : فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : حدثنا موسى بن هارون البرديّ ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت الم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْض . . . الاَية ، ناحب أبو بكر قريشا ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له : إني قد ناحبتهم ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «هَلاّ احْتَطْتّ فإنّ البِضْعَ ما بينَ الثلاثِ إلى التّسْع » . قال الجمحي : المناحبة : المراهنة ، وذلك قبل أن يكون تحريم ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ قال : قد مضى كان ذلك في أهل فارس والروم ، وكانت فارس قد غلبتهم ، ثم غلبت الروم بعد ذلك ، ولقي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب ، يوم التقت الروم وفارس ، فنصر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين على مشركي العرب ، ونصر أهل الكتاب على مشركي العجم ، ففرح المؤمنون بنصر الله إياهم ونصر أهل الكتاب على العجم . قال عطية : فسألت أبا سعيد الخدريّ عن ذلك ، فقال : التقينا مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس ، فنصرنا الله على مشركي العرب ، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس ، ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين ، وفرحنا بنصر الله أهل الكتاب على المجوس ، فذلك قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْر اللّهِ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله آلم . غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهمْ سَيَغْلِبُونَ غلبتهم فارس ، ثم غلبت الروم .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن مسعود ، قال : قد مضى آلم غُلِبَت الرّومُ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال : ذَكَر غَلَبة فارس إياهم ، وإدالة الروم على فارس ، وفرح المؤمنون بنصر الروم أهل الكتاب على فارس من أهل الأوثان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن عكرِمة ، أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض ، قالوا : وأدنى الأرض يومئذٍ أَذْرعات ، بها التقَوا ، فهُزِمت الروم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة ، فشقّ ذلك عليهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم ، ففرح الكفار بمكة وشمتوا ، فلقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنكم أهل الكتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أُمّيّون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ . . . الاَيات ، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفّار ، فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ؟ فلا تفرحوا ، ولا يقرّنّ الله أعينكم ، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه أُبيّ بن خلف ، فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : أنت أكذب يا عدوّ الله ، فقال : أناحبك عشر قلائص مني ، وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمتُ ، وإن ظهرت فارس على الروم غرمتَ إلى ثلاث سنين ثم جاء أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ما هَكَذَا ذَكَرْتُ ، إنّمَا البِضْعُ ما بينَ الثّلاثِ إلى التّسْعِ ، فَزَايِدْهُ فِي الخَطَرِ ، ومادّه فِي الأجَلِ » . فخرج أبو بكر فلقي أُبَيّا ، فقال : لعلك ندمت ، فقال : لا ، فقال : أزايدك في الخطر ، وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مئة قلوص لمئة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرِمة ، قال : كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك الأبطال ، فدعاها كسرى ، فقال : إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك ، فأشيري عليّ أيهم أستعمل ، فقالت : هذا فلان ، وهو أروغ من ثعلب ، وأحذر من صرد ، وهذا فرخان ، وهو أنفذ من سنان ، وهذا شهربراز ، وهو أحلم من كذا ، فاستعمل أيهم شئت قال : إني قد استعملت الحليم ، فاستعمل شهربراز ، فسار إلى الروم بأهل فارس ، وظهر عليهم ، فقتلهم ، وخرّب مدائنهم ، وقطع زيتونهم قال أبو بكر : فحدّثت بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال : أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت : لا ، قال : أما إنك لو رأيتها ، لرأيت المدائن التي خرّبت ، والزيتون الذي قُطع ، فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته .
قال عطاء الخراساني : ثني يحيى بن يعمر ، أن قيصر بعث رجلاً يُدعى قطمة بجيش من الروم ، وبعث كسرى شهربراز ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إليكم ، فلقيت فارس الروم ، فغلبتهم فارس ، ففرح بذلك كفار قريش ، وكرهه المسلمون ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ . . . الاَيات ، ثم ذكر مثل حديث عكرمة ، وزاد : فلم يزل شهربراز يطؤهم ، ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ثم مات كسرى ، فبلغهم موته ، فانهزم شهربراز وأصحابه ، وأوعبت عليهم الروم عند ذلك ، فأتبعوهم يقتلونهم قال : وقال عكرمة في حديثه : لما ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب ، فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كسرى ، فكتب إلى شهربُراز : إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فَرّخان ، فكتب إليه : أيها الملك ، إنك لن تجد مثل فَرّخان ، إن له نكاية وضربا في العدوّ ، فلا تفعل . فكتب إليه : إن في رجال فارسَ خَلَفا منه ، فعَجّل إليّ برأسه . فراجعه ، فغضب كسرى فلم يجبه ، وبعث بريدا إلى أهل فارس : إني قد نزعت عنكم شَهْربُرَاز ، واستعملت عليكم فَرّخان ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة : إذا وَلِيَ فَرّخان المُلك ، وانقاد له أخوه ، فأعطه هذه فلما قرأ شَهْربُرَاز الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره ، وجلس فَرّخان ، ودفع الصحيفة إليه ، قال : ائتوني بشهربُرَاز ، فقدّمه ليضرب عنقه ، قال : لا تعجل حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم ، فدعا بالسّفَط ، فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فردّ الملك ، وكتب شهربُراز إلى قيصر ملك الروم : إن لي إليك حاجة لا يحملها البريد ، ولا تبلّغها الصحف ، فالْقِني ، ولا تَلْقَني إلاّ في خمسين رُوميا ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا فأقبل قيصر في خَمْسِ مئة ألف روميّ ، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق ، وخاف أن يكون قد مكر به ، حتى أتته عيونه أن ليس معه إلاّ خمسون رجلاً ، ثم بُسِط لهما ، والتقيا في قبة ديباج ضُربت لهما ، مع كل واحد منهما سِكّين ، فدعيا ترجمانا بينهما ، فقال شَهْرْبُرَاز : إن الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي ، بكيدنا وشجاعتنا ، وإن كسرى حسدنا ، فأراد أن أقتل أخي ، فأبيت ، ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك ، فقال : قد أصبتما ، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السرّ بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا . قال : أجل ، فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما ، فأهلك الله كسرى ، وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُدَيبَية ، ففرح ومن معه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة آلم غُلِبَتِ الرّومُ قال : غَلَبتهم فارسُ على أدنى الشام وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيَغْلِبُونَ . . . الاَية ، قال : لما أنزل الله هؤلاء الاَيات صَدّق المسلمون ربهم ، وعلموا أن الروم سيظهرون على فارس ، فاقتمروا هم والمشركون خمسَ قلائص ، خمَس قلائص ، وأَجّلوا بينهم خمس سنين ، فوليَ قِمار المسلمين أبو بكر رضي الله عنه ، ووليَ قِمار المشركين أُبيّ بن خلف ، وذلك قبل أن يُنْهَى عن القمار ، فحلّ الأجل ، ولم يظهر الروم على فارس ، وسأل المشركون قِمارهم ، فذَكَر ذلك أصحاب النبيّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَمْ تَكُونُوا أحِقّاءَ أنْ تُؤَجّلُوا دُونَ العَشْرِ ، فإنّ البِضْعَ ما بينَ الثّلاثِ إلى العَشْرِ ، وَزَايِدُوهُمْ فِي القِمار ، وَمادّوهُمْ فِي الأجَلِ » ، ففعلوا ذلك ، فأظهر الله الروم على فارس عند رأس البِضْع سنينَ من قمارهم الأوّل ، وكان ذلك مرجعَه من الحديبية ، ففرح المسلمون بصلحهم الذي كان ، وبظهور أهل الكتاب على المجوس ، وكان ذلك مما شدّد الله به الإسلام وهو قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ . . . الاَية .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، في قوله آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر الناس بمكة أن الروم ستُغْلَب ، قال : فنزل القرآن بذلك ، قال : وكان المسلمون يُحِبون ظهور الروم على فارس ، لأنهم أهل الكتاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن عبد الله ، قال : كانت فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارسُ على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم : فلما نزلت آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى فِي بِضْعِ سِنِينَ قالوا : يا أبا بكر : إنّ صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ، قال : صدق ، قالوا : هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص ، إلى سبع سنين ، فمضت السبع ، ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، وشَقّ على المسلمين ، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم : فقال : «ما بِضْعُ سِنِينَ عِنْدَكُمْ ؟ » قالوا : دون العشر ، قال : «اذْهَبْ فزَايِدْهُمْ وَازْدَدْ سنَتَيْنِ » قال : فما مضت السنتان ، حتى جاءت الركبان بظهور الرّوم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله : آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى قوله وَعْدَ اللّهِ لا يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، ومطر عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : مضت الروم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ قال : أدنى الأرض : الشأم وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ قال : كانت فارس قد غَلَبت الروم ، ثم أديلَ الرومُ على فارس ، وذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ الرّومَ سَتَغْلِبُ فارِسا » ، فقال المشركون : هذا مما يَتَخَرّص محمد ، فقال أبو بكر : تُنَاحبونني ؟ والمناحبة : المجاعلة ، قالوا : نعم ، فناحبهم أبو بكر ، فجعل السنين أربعا أو خمسا ، ثم جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ البِضْعَ فِيما بينَ الثّلاثِ إلى التّسْعِ ، فارْجِعْ إلى القَوْمِ ، فَزِدْ فِي المُناحَبَةِ » ، فرجع إليهم . قالوا : فناحَبَهم فزاد . قال : فغَلبت الروم فارسا ، فذلك قول الله : وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ يوم أُديلت الرومُ على فارس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، عن أبي إسحاق الفَزاريّ ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس آلم غُلِبَتِ الرومُ قال : غُلِبت وغَلَبت .
فأما الذين قرءوا ذلك : «غَلَبَتِ الرّومُ » بفتح الغين ، فإنهم قالوا : نزلت هذه الاَية خبرا من الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن غَلَبة الروم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا المعتمِر بن سليمان ، عن أبيه ، عن سليمان ، يعني الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يومُ ظهر الروم على فارس ، فأعجبَ ذلك المؤمنين ، فنزلت آلم غُلِبَتِ الرّومُ على فارس .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم بدر ، غلبت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بذلك ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، قال : لما كان يوم بدر ، ظهرت الروم على فارس ، فأعجب ذلك المؤمنين ، لأنهم أهل كتاب ، فأنزل الله آلم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أدْنَى الأرْضِ قال : كانوا قد غلبوا قبل ذلك ، ثم قرأ حتى بلغ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وذلك أن أهل فارس غلبوا على الروم {في أدنى الأرض} يعني أرض الأردن وفلسطين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"غُلِبَتِ الرّومِ فِي أدْنَى الأرْضِ" اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: غُلِبَتِ الرّومُ (بضمّ الغين)، بمعنى: أن فارس غَلَبت الروم. وروي عن ابن عمر وأبي سعيد في ذلك ما: حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي، عن الحسن الجفريّ، عن سليط، قال: سمعت ابن عمر يقرأ «الم غَلَبَتِ الرّومُ» فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، على أيّ شيء غَلَبوا؟ قال: على ريف الشام.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره "الم غُلِبَتِ الرّومُ "-بضم الغين-، لإجماع الحجة من القرّاء عليه. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: غلبت فارس الروم "فِي أدْنَى الأرْضِ" من أرض الشام إلى أرض فارس.
"وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ" يقول: والروم من بعد غلبة فارس إياهم "سَيَغْلِبُونَ" فارس "فِي بِضْعِ سنِينَ لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ" غلبتهم فارس "وَمِنْ بَعْدُ" غلبتهم إياها، يقضي في خلقه ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويظهر من شاء منهم على من أحبّ إظهاره عليه.
"وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ" يقول: ويوم يغلِب الروم فارس يفرح المؤمنون بالله ورسوله بنصر الله إياهم على المشركين، ونُصْرة الروم على فارس.
"يَنْصُرُ اللّهُ" تعالى ذكره "مَنْ يَشاءُ" من خلقه، على من يشاء، وهو نُصرة المؤمنين على المشركين ببدر، "وَهُوَ العَزِيزُ" يقول: والله الشديد في انتقامه من أعدائه، لا يمنعه من ذلك مانع، ولا يحول بينه وبينه حائل "الرّحِيمُ" بمن تاب من خلقه، وراجع طاعته أن يعذّبه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر أهل التأويل أنه إنما يذكر هذا لأن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة؛ يقولون: إن الروم أهل الكتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فستغلبكم كما غلبت فارس الروم. فأنزل الله هذه الآيات: {الم} {غلبت الروم} {في أدنى الأرض} الآية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله {غُلِبَتِ الرُّومُ}: سُرَّ المسلمون بظفر الروم على العجم -وإن كان الكفر يجمعهم- إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء، فشكر الله لهم، وأنزل فيهم الآية.. فكيف بمن يكون سروره لدين الله، وحُزنُه واهتمامه لدين الله؟...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أثبت سبحانه أن له جميع الأمر وأنه يسرُّ المؤمنين بنصرة من له دين صحيح الأصل، وخذلان أهل العراقة في الباطل والجهل، وجعل ذلك على وجه يفيد نصر المؤمنين على المشركين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين...
وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية.
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان. ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم؛ وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان؛ وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان.
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا؛ ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. منذ حوالي أربعة عشر قرنا. ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية؛ ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان؛ وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة، وحقيقة القضية؛ فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوعت العلل والأسباب.
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة أبي بكر -رضي الله عنه- في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه؛ فما يزيد على أن يقول: صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده: (في بضع سنين).. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل.
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه: (لله الأمر من قبل ومن بعد).. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر ما يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة، التي ليس لأحد عليها من سلطان؛ ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة؛ ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله. و إذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم.
(ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض. وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)..
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله)..
ولقد صدق وعد الله، وفرح المؤمنون بنصر الله.
(ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم)..
فالأمر له من قبل ومن بعد. وهو ينصر من يشاء. لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال. فهي ترد الأمر كله إلى الله. ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلا أو لا تتحقق فليس داخلا في التكليف، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ودخل يصلي قائلا: توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعقلها وتوكل". فالتوكل في العقيدة الإسلامية مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله.
(ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم)..
فهذا النصر محفوف بظلال القدرة القادرة التي تنشئه وتظهره في عالم الواقع؛ وبظلال الرحمة التي تحقق به مصالح الناس؛ وتجعل منه رحمة للمنصورين والمغلوبين سواء. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وصلاح الأرض رحمة للمنتصرين والمهزومين في نهاية المطاف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
خبر مستعمل في لازم فائدته على طريق الكناية، أي نحن نعلم بأن الروم غُلبت، فلا يَهْنِكْم ذلك ولا تطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنّا نعلم أنهم سيَغلبون مَنْ غلبوهم بعد بضع سنين بحيث لا يعد الغلب في مثله غلَباً...