ثم ختم - سبحانه - هذا التكريم لعباده بقوله : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } .
واسم الإِشارة { تِلْكَ } مبتدأ وخبره { الجنة } وما بعدها صفة الجنة . . وفى الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب على سبيل التشريف .
وقال - سبحانه - { وَتِلْكَ } بالإِفراد ، للإِشعار بأن الخطاب لكل واحد من أهل الجنة ، على سبيل العناية به ، والإِعلاء من شأنه .
أى : ويقال لهم يوم القيامة على سبيل التشريف : وهذه الجنة التى أورثتموها بسبب أعمالكم الصالحة فى الدنيا ، لكم فيها فاكهة كثيرة ، وثمار لذيذة ، منها تأكلون أكلا هنيئا مريئا .
وعبر بقوله - تعالى - { أُورِثْتُمُوهَا } للإِشعار بأنها قد صارت إليهم بفضل الله وكرمه ، كما يصير الميراث إلى الوارث .
وقوله { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بيان للأسباب التى أوصلتهم إلى هذه المنازل الالية ، فإن أعمالهم الطيبة التى تقبلها الله - تعالى - منهم ، جعلتهم - بفضله وإحسانه - فى أعلى الدرجات وأسماها .
ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم ، فإنه لا يدخل أحدًا عمله الجنة ، ولكن بفضل من الله ورحمته .
وإنما الدرجات تفاوتها{[26132]} بحسب عمل الصالحات .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان المقرئ ، حدثنا يوسف بن يعقوب - يعني الصفار - حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح{[26133]} ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة ، فيقول : { لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ الزمر : 57 ] وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [ الأعراف : 43 ] ، ليكون {[26134]} له شكرا " . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالكافر يرث المؤمنَ منزلَه من النار ، والمؤمن يرث الكافرَ منزله من الجنة " وذلك {[26135]} قوله تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } {[26136]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنّةُ الّتِيَ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يقال لهم : وهذه الجنة التي أورثكموها الله عن أهل النار الذين أدخلهم جهنم بما كنتم في الدنيا تعملون من الخيرات لَكُمْ فِيها يقول : لكم في الجنة فاكهة كثيرة من كلّ نوع مِنْها تَأْكُلُونَ يقول : من الفاكهة تأكلون ما اشتهيتم .
وجملة { وتلك الجنة التي أورثموها } الآية تذييل للقول . واسم الإشارة مبتدأ و { الجنة } خبره ، أي تلك التي تَرونها هي الجنة التي سمعتم بها ووُعدتم بدخولها . وجملة { التي أورثتموها بما كنتم تعملون } صفة للجنة .
واستعير { أورثتموها } لمعنى : أُعطيتموها دون غيركم ، بتشبيه إعطاء الله المؤمنين دون غيرهم نعيم الجنة بإعطاء الحاكم مال الميت لوارثه دون غيره من القرابة لأنه أولى به وآثرُ بنيله .
والباء في { بما كنتم تعملون } للسببية وهي سببية بجعل الله ووعده ، ودل قوله { كنتم تعملون } على أن عملهم الذي استحقّوا به الجنة أمر كائن متقرر ، وأن عملهم ذلك متكرر متجدد ، أي غير منقطع إلى وفاتهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يقال لهم: وهذه الجنة التي أورثكموها الله عن أهل النار الذين أدخلهم جهنم، بما كنتم في الدنيا تعملون من الخيرات.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن الله عز وجل بفضله عوّد عباده لما كان منه من الإحسان والإنعام كأنّ ذلك كلّه منهم إليه فضل منه حين نسب الجنة التي يُعطيهم إلى أعمالهم التي عمِلوها، وإن كانوا لا يستوجبون الجنة وما فيها بالأعمال حقيقة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... لما كانت الجنة جزاء على أعمالهم التي عملوها وعقيب ذلك عبر عن ذلك بأنهم أورثوها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {أورثتموها بما كنتم تعملون} ليس المعنى أن الأعمال أوجبت على الله إدخالهم الجنة، وإنما المعنى: أن حظوظهم منها على قدر أعمالهم، وأما نفس دخول الجنة وأن يكون من أهلها فبفضل الله وهداه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: الجنة التي لمثلها يعمل العاملون، عطف عليه قوله مشيراً إلى فخامتها بأداة البعد: {وتلك الجنة} أي العالية المقام {التي} ولما كان الإرث أمكن للملك، وكان مطمح النفوس إلى المكنة في الشيء مطلقاً لا يبعد، بني للمفعول قوله تعالى: {أورثتموها}.
ولما كان ما حصله الإنسان بسعيه ألذ في نفسه لسرورة بالتمتع به وبالعمل الذي كان من سببه، قال تعالى: {بما} وبين أن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها فالمنّة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم بقوله: {كنتم تعملون} أي مواظبين على ذلك لا تفترون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي تلك التي تَرونها هي الجنة التي سمعتم بها ووُعدتم بدخولها...
{أورثتموها} لمعنى: أُعطيتموها دون غيركم، بتشبيه إعطاء الله المؤمنين دون غيرهم نعيم الجنة بإعطاء الحاكم مال الميت لوارثه دون غيره من القرابة؛ لأنه أولى به وآثرُ بنيله...
{كنتم تعملون} على أن عملهم الذي استحقّوا به الجنة أمر كائن متقرر، وأن عملهم ذلك متكرر متجدد، أي غير منقطع إلى وفاتهم..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وهنا، من أجل أن يتّضح أن كل نعم الجنّة هذه تعطى جزاءً لا اعتباطاً وعبثاً، تضيف الآية: (وتلك الجنّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون).
والطريف في الأمر أنّ الآية تطرح مجازاة الأعمال وكون الجنّة في مقابلها من جهة، ومن جهة أُخرى تجعلها إرثاً، وهو يستعمل عادة في الموارد التي تصل فيها النعمة إلى الإِنسان من دون أن يبذل جهداً أو سعياً في تحصيلها، وهذه إشارة إلى أنّ أعمالكم هي أساس خلاصكم ونجاتكم، إلاّ أن ما تحصلون عليه إذا ما قورن بأعمالكم فهو كالشيء المجاني المعطى من قبل الله تعالى، وكالهبة حصلتم عليها بفضله.
ويعتبر البعض هذا التعبير إشارة إلى ما قلناه سابقاً من أن لكل إنسان منزلاً في الجنّة ومحلاً في الجحيم، فيرث أصحاب الجنّة منازل أصحاب النّار، ويرث أصحاب النّار أمكنة أصحاب الجنّة!