ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات بتأكيد علمه بكل شىء قال : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض . . } .
أى : لقد علمت - أيها الرسول الكريم - وتيقنت ، أن الله - تعالى - لا يعزب عن علمه مثقال ذرة مما يحصل فى السموات والأرض من أقوال أو أفعال .
{ إِنَّ ذلك } الذى يجرى فى السموات والأرض كائن وثابت { فِي كِتَابٍ } هو اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال الخلق .
{ إِنَّ ذلك } الذى ذكرناه لك من الحكم بين الناس ، ومن العلم بأحوالهم ومن تسجيل أعمالهم { عَلَى الله } - تعالى - { يَسِيرٌ } وهين ، لأنه - سبحانه - له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين .
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه ، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها ، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " {[20412]} .
وفي السنن ، من حديث جماعة من الصحابة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن . فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة " {[20413]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا ابن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جُبَيْر قال : قال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ مَسِيرَة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق - وهو على العرش تبارك وتعالى - : اكتب . قال القلم : وما أكتب ؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة . فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة . فذلك قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ }
وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها ، وقدرها وكتبها أيضًا ، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك ، على الوجه الذي يفعلونه ، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره ، وهذا يعصي باختياره ، وكتب ذلك عنده ، وأحاط بكل شيء علما ، وهو سهل عليه ، يسير لديه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ألم تعلم يا محمد أن الله يعلم كلّ ما في السموات السبع والأرضين السبع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة ، على علم منه بجميع ما عملوه في الدنيا ، فمجازي المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته . إنّ ذَلِكَ في كِتَابٍ يقول تعالى ذكره : إن علمه بذلك في كتاب ، وهو أمّ الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ثناؤه قبل أن يخلق خلقه ما هو كائن إلى يوم القيامة . إنّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسِيرٌ . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ميسر بن إسماعيل الحلبيّ ، عن الأوزاعيّ ، عن عبدة بن أبي لُبابة ، قال : علم الله ما هو خالق وما الخلق عاملون ، ثم كتبه ، ثم قال لنبيه : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّماءِ والأرْضِ إنّ ذَلِكَ فِي كِتابٍ إنّ ذَلِكَ عَلى اللّهِ يَسِيرٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني ميسر ، عن أرطاة بن المنذر ، قال : سمعت ضَمْرة بن حبيب يقول : إن الله كان على عرشه على الماء ، وخلق السموات والأرض بالحقّ ، وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه ، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومجّده ألف عام ، قبل أن يبدأ شيئا من الخلق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن سيار ، عن ابن عباس ، أنه سأل كعب الأحبار عن أمّ الكتاب ، فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ، فقال لعلمه : كُنْ كتابا .
وكان ابن جُرَيج يقول في قوله : إنّ ذَلَكَ فِي كِتابٍ ما :
حدثنا به القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : إنّ ذَلِكَ فِي كِتابٍ قال : قوله : اللّهُ يَحْكُم بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتِلَفُونَ .
وإنما اخترنا القول الذي قلنا في ذلك ، لأن قوله : إنّ ذلكَ إلى قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّمآءِ والأرْضِ أقرب منه إلى قوله : اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، فكان إلحاق ذلك بما هو أقرب إليه أولى منه بما بعد .
وقوله : إنّ ذَلِكَ عَلى اللّهِ يَسِيرٌ اختلف في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : إن الحكم بين المختلفين في الدنيا يوم القيامة على الله يسير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : إنّ ذَلِكَ عَلى الله يَسِيرٌ قال : حكمه يوم القيامة ، ثم قال بين ذلك : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّماءِ وَالأرضِ إنّ ذلكَ في كتابٍ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن كتاب القلم الذي أمره الله أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن على الله يسير يعني هين . وهذا القول الثاني أولى بتأويل ذلك ، وذلك أن قوله : إنّ ذلكَ عَلى اللّهَ يَسِيرٌ . . . إلى قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السّماءِ والأرْضِ بينهما فإلحاقه بما هو أقرب أولى ما وجد للكلام ، وهو كذلك مخرج في التأويل صحيح .
لما أخبر تعالى في الآية قبلها أنه يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه أتبع ذلك الخير بأن عنده علم كل شيء ليقع الحكم في معلوم ، فخرجت العبارة على طريق التنبيه على علم الله تعالى وإحاطته و { إن ذلك } كله { في كتاب } وهو اللوح المحفوظ وقوله : { إن ذلك على الله يسير } ، يحتمل أَن تكون الإشارة إلى كون ذلك في كتاب وكونه معلوماً ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في الاختلاف .
استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله { الله يحكم بينكم يوم القيامة } [ الحج : 69 ] ، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلاً على حساب عمله ، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به .
و { ما في السماء والأرض } يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه .
والاستفهام إنكاري أو تقريري ، أي أنك تعلم ذلك ، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدراً مما تلاقيه منهم .
وجملة { إن ذلك في كتاب } بيان للجملة قبلها ، أي يعلم ما في السماء والأرض علماً مفصلاً لا يختلف ، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنُقصان .
واسم الإشارة إلى العمل في قوله { الله أعلم بما تعملون } أو إلى ( مَا ) في قوله : { ما كنتم فيه تختلفون } [ الحج : 69 ] .
والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال : إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة ، وإما على الحقيقة ، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتاباً لائقاً بالمغيبات .
وجملة { إن ذلك على الله يسير } بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء .
واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور . ولك أن تجعلها بياناً لجملة { يعلم ما في السماء والأرض } واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل { يعلم ، } أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب ، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث .
وتقديم المجرور على متعلّقه وهو { يسير } للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى .