التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَيۡكَ مِنَ ٱلۡأٓيَٰتِ وَٱلذِّكۡرِ ٱلۡحَكِيمِ} (58)

وبعد أن حكى الله - تعالى - فى الآيات السابقة ولادة عيسى - عليه السلام - وما أجراه على يديه من معجزات ، وما أكرمه به من مكرمات ، وكيف كان موقف بنى إسرائيل منه ، وكيف أبطل الله مكرهم وخيب سعيهم ، إذ رفعه إليه وطهره من أقوالهم الباطلة وأفعالهم الأثيمة وتوعد أعداءه بالعذاب الشديد ووعد أتباعه بالثواب الجزيل . . . بعد أن حكى القرآن كل ذلك ختم حديثه عن عيسى - عليه السلام - ببيان حقيقة تكوينه ، وبإزالة وجه الغرابة فى ولادته ، وبتلقين النبى صلى الله عليه وسلم الرد الصحيح على كل مجادل فى شأن عيسى - عليه السلام - استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه المعجز فيقول : { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ . . . } .

قوله - تعالى - { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم } اسم الإشارة فيه وهو " ذلك " مشار به إلى المذكور من قصى آل عمران وقصة مريم وأمها ، وقصة زكريا وندائه لربه ، وقصة عيسى وما أجراه الله - تعالى - على يديه من معجزات وما خصه به من كرامات .

أى ذلك القصص الحكيم الذى قصصناه عليك يا محمد { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أى نقصه عليك متتابعا بعضه تلو بعض من غير أن يكون لك اطلاع سابق عليه . فأنت لم تكن معاصراً لهؤلاء الذين ذكرنا لك قصصهم وأحوالهم وهذا من أكبر الأدلة على صدقك فيما تبلغه عن ربك .

وقوله { ذلك } مبتدأ وقوله { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } خبره .

وقوله { مِنَ الآيَاتِ } حال من الضمير المنصوب في { نَتْلُوهُ } .

والمراد بالآيات الحجج الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وقوله { والذكر الحكيم } أى والقرآن المحكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمشتمل على الحكم التى من شأنها أن تهدى الناس إلى ما يسعدهم متى اتبعوها وقيل المراد بالذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذى نقلت منه جميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَيۡكَ مِنَ ٱلۡأٓيَٰتِ وَٱلذِّكۡرِ ٱلۡحَكِيمِ} (58)

33

وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من قصة عيسى التي تدور حولها المناظرة ويدور حولها الجدل ، يبدأ التعقيب الذي يقرر الحقائق الأساسية المستفادة من هذا القصص ، وينتهي إلى تلقين الرسول [ ص ] ما يواجه به أهل الكتاب مواجهة فاصلة تنهي الحوار والجدل ؛ وتستقر على حقيقة ما جاء به ، وما يدعو إليه ، في وضوح كامل وفي يقين :

( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم . إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب . ثم قال له : كن . فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل : تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ، ونساءنا ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق ، وما من إله إلا الله . وإن الله لهو العزيز الحكيم . فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين . قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . .

وهكذا نجد هذا التعقيب يتضمن ابتداء صدق الوحي الذي يوحى إلى محمد [ ص ] :

( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) . .

ذلك القصص . وذلك التوجيه القرآني كله . فهو وحي من الله . يتلوه الله على نبيه [ ص ] وفي التعبير معنى التكريم والقرب والود . . فماذا بعد أن يتولى الله تعالى التلاوة على محمد نبيه ؟ تلاوة الآيات والذكر الحكيم . . وإنه لحكيم يتولى تقرير الحقائق الكبرى في النفس والحياة بمنهج وأسلوب وطريقة تخاطب الفطرة وتتلطف في الدخول عليها واللصوق بها بشكل غير معهود فيما يصدر عن غير هذا المصدر الفريد .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ نَتۡلُوهُ عَلَيۡكَ مِنَ ٱلۡأٓيَٰتِ وَٱلذِّكۡرِ ٱلۡحَكِيمِ} (58)

{ ذلك } رفع بالابتداء والإشارة به إلى ما تقدم من الأنباء ، و { نتلوه عليك } خبر ابتداء وقوله { من الآيات } لبيان الجنس ، ويجوز أن تكون للتبعيض ، ويصح أن يكون { نتلوه عليك } حالاً ويكون الخبر في قوله من { الآيات } وعلى قول الكوفيين يكون قوله { نتلوه } صلة لذلك ، على حد قولهم في بيت ابن مفرغ الحميري{[3208]} :

وهذا تحملين طليق *** . . . . . . . . . . . . . . . .

ويكون الخبر في قوله : { من الآيات } ، وقول البصريين في البيت أن تحملين حال التقدير ، وهذا محمولاً ، و{ نتلوه } معناه نسرده ، و{ من الآيات } ظاهره آيات القرآن ، ويحتمل أن يريد بقوله { من الآيات } من المعجزات والمستغربات أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ ، ولست ممن صحب أهل الكتاب ، فالمعنى أنها آيات لنبوتك ، وهذا الاحتمال إنما يتمكن مع كون { نتلوه } حالاً ، و{ الذكر } ما ينزل من عند الله ، و{ الحكيم } يجوز أن يتأول بمعنى المحكم ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، ويصح أن يتأول بمعنى مصرح بالحكمة ، فيكون بناء اسم الفاعل ، قال ابن عباس ، { الذكر } القرآن ، و{ الحكيم } الذي قد كمل في حكمته .


[3208]:- شاعر عاش في العصر الأموي، اسمه يزيد بن ربيعة بن مفرغ، (الشعر والشعراء: 276، والأغاني 17/51، والخزانة 2/210، 514، وأمالي الزجاجي: 229) والبيت بتمامه: عدس، ما لعباد عليك إمارة نجوت، وهذا تحملين طليق يخاطب بغلته: وعدس: كلمة لزجر البغل.