ثم حكى - سبحانه - ما كان عليه المشركون ، من غرور واستخفاف بالوعيد فقال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
والمراد بالفتح : الحكم والقضاء والفصل فى الخصومة بين المتخاصمين ، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن شعيب - عليه السلام - : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } أى : " احكم بيننا وبين قومنا بالحق ، وأنت خير الحاكمين " .
أى : ويقول المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم ولأصحابه على سبيل الاستهزاء ، واستعجال العقاب : متى هذا الذى تحدثوننا عنه من أن الله - تعالى - سيفصل بيننا وبينكم ، ويجعل لكم النصر ولنا الهزيمة ؟
لقد طال انتظارنا لهذا اليوم الذى يتم فيه الحكم بيننا وبينكم ، فإن كنتم صادقين فى قولكم ، فادعوا ربكم أن يعجل بهذا اليوم .
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة بعد هذا المطاف الطويل . فيحكي استعجالهم بالعذاب الذي يوعدون ؛ وشكهم في صدق الإنذار والتحذير . ويرد عليهم مخوفا محذرا من تحقيق ما يستعجلون به ، يوم لا ينفعهم إيمان ، ولا يمهلون لإصلاح ما فات . ويختم السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الإعراض عنهم ، وتركهم لمصيرهم المحتوم :
( ويقولون : متى هذا الفتح إن كنتم صادقين . قل : يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون . فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ) . .
والفتح هو الفصل فيما بين الفريقين من خلاف ؛ وتحقق الوعيد الذي كان يخدعهم أنه لا يجيئهم من قريب ؛ وهم غافلون عن حكمة الله في تأخيره إلى أجله الذي قدره ، والذي لا يقدمه استعجالهم ولا يؤخره . وما هم بقادرين على دفعه ولا الإفلات منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَىَ هََذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنّهُمْ مّنتَظِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَيَقُولُونَ هؤلاء المشركون بالله يا محمد لك مَتى هَذَا الْفَتْحُ . واختلف في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : متى يجيء هذا الحكم بيننا وبينكم ، ومتى يكون هذا الثواب والعقاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قال : قال أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : إن لنا يوما أوشك أن نستريح فيه وننعم فيه ، فقال المشركون مَتى هَذَا الفَتْحُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فتح مكة .
والصواب من القول في ذلك قول من قال : معناه : ويقولون متى يجيء هذا الحكم بيننا وبينكم ، يعنون العذاب ، يدلّ على أن ذلك معناه قوله : قُلْ يَوْمَ الفَتْحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ولا شكّ أن الكفار قد كان جعل الله لهم التوبة قبل فتح مكة وبعده ، ولو كان معنى قوله مَتى هَذَا الفَتْحُ على ما قاله من قال : يعني به : فتح مكة ، لكان لا توبة لمن أسلم من المشركين بعد فتح مكة ، ولا شكّ أن الله قد تاب على بشر كثير من المشركين بعد فتح مكة ، ونفعهم بالإيمان به وبرسوله فمعلوم بذلك صحة ما قلنا من التأويل ، وفساد ما خالفه . وقوله : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يعني : إن كنتم صادقين في الذي تقولون من أنا معاقبون على تكذيبنا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وعبادتنا الاَلهة والأوثان .
ثم حكى عن الكفرة أنهم يستفتحون ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسول على معنى الهزء والتكذيب ، و { الفتح } الحكم هذا قول جماعة من المفسرين ، وهذا أقوى الأقوال ، وقالت فرقة الإشارة إلى فتح مكة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف يرده الإخبار بأن الكفرة لا ينفعهم الإيمان ، فلم يبق إلا أن يكون { الفتح } إلا إما حكم الآخرة ، وهذا قول مجاهد ، وإما فصل{[9439]} في الدنيا كبدر ونحوها .
يجوز أن يكون عطفاً على جملة { ثم أعرض عنها } [ السجدة : 22 ] ، أي : أعرضوا عن سماع الآيات والتدبر فيها وتجاوزوا ذلك إلى التكذيب والتهكم بها . f ومناسبة ذكر ذلك هنا أنه وقع عقب الإشارة إلى دليل وقوع البعث وهو يوم الفصل . ويجوز أن يعطف على جملة { وقالوا أإذا ضَلَلْنا في الأرض إنّا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] .
والمعنى : أنهم كذبوا بالبعث وما معه من الوعيد في الآخرة وكذّبوا بوعيد عذاب الدنيا الذي منه قوله تعالى : { ولنُذِيقَنَّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } [ السجدة : 21 ] .
و { الفتح : النصر والقضاء . والمراد به : نصر أهل الإيمان بظهور فوزهم وخيبة أعدائهم فإن خيبة العدوّ نصر لضِده وكان المسلمون يتحدّون المشركين بأن الله سيفتح بينهم وينصرهم وتظهر حجتهم ، فكان الكافرون يكررون التهكم بالمسلمين بالسؤال عن وقت هذا الفتح استفهاماً مستعملاً في التكذيب حيث لم يحصل المستفهم عنه . وحكاية قولهم بصيغة المضارع لإفادة التعجيب منه كقوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] مع إفادة تكرر ذلك منهم واتخاذهم إياه . والمعنى : إن كنتم صادقين في أنه واقع فبينوا لنا وقته فإنكم إذ علمتم به دون غيركم فلتعلموا وقته . وهذا من السفسطة الباطلة لأن العلم بالشيء إجمالاً لا يقتضي العلم بتفصيل أحواله حتى ينسب الذي لا يعلم تفصيله إلى الكذب في إجماله .
واسم الإشارة في { هذا الفتح } مع إمكان الاستغناء عنه بذكر مبينهِ مقصود منه التحقير وقلة الاكتراث به كما في قول قيس بن الخطيم :
متى يأت هذا الموتُ لا يلف حاجة *** لنفسي إلا قَدْ قضيت قضاءها
إنباء بقلة اكتراثه بالموت ومنه قوله تعالى حكاية عنهم : { أهذا الذي يذكر ءالهتكم } [ الأنبياء : 36 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.