ثم أضافوا إلى إصرارهم هذا استخفافا به وبما يدعو إليه فقالوا : " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . "
ومعنى اعتراك : أصابك ومسك . يقال عراه الأمر واعتراه أى أصابه ، وأصله من قولهم : عراه يعروه ، أى : غشية وأصابه . ومنه قول الشاعر :
وإنى لتعرونى لذكراك هزة . . . . . أى : تصيبنى .
أى : ما نحن تباركى آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمتبعين ، بل عليك أن تيأس يأسا تاما من استجابتنا لك ، وحالتك التى نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك : إن سبك لآلهتنا جعل بعضها - لا كلها - يتسلط عليك ، ويوجه قدرته نحوك ، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض .
ولم يقولوا : " اعتراك آلهتنا بسوء " بل قالوا : { بَعْضُ آلِهَتِنَا } تهديدا له وإشارة إلى أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا .
وهذكا نراهم قد ردوا على نبيهم ومرشدهم بأربعة ردود ، تدرجوا فيها من السئ إلى الأسوأ ، ومن القبيح إلى الأقبح . . مما يدل على توغلهم فى الطغيان ، وبلوغهم النهاية فى العناد والكفر والجحود .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : " أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . "
أى : مسك بجنون لسبك إياها ، وصدك عنها ، وعداوتك لها ، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء ، فمن ثم صرت تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين .
ثم قال . وقد دلت ردودهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد ، لا يبالون بالبهت ، ولا يلتفتون إلى النصح ، ولا تلين شكيمتهم للرشد .
وهذا الأخير دال على جهل مفرط ، وبله متناه ، حيث اعقتدوا فى حجارة أنها تنتصر وتنقم . . .
والآن بعد أن استمع هود - عليه السلام - إلى ردودهم القبيحة ماذا كان موقفه منهم ؟
لقد كان موقفه منهم : موقف المتبرئ من شركهم ، والمتحدى لطغيانهم والمعتمد على الله - تعالى - وحده فى الانتصار عليهم ، ولقد حكى القرآن رده علهيم فقال :
{ قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
أى : قال هود - عليه السلام - للطغاة من قومه بعزة وثقة { قَالَ إني أُشْهِدُ الله } الذى لا رب سواه على براءتى من عبادتكم لغيره .
{ واشهدوا } أنتم أيضا على { أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
أى : على براءتى من كل عبادة تعبدونها لغير الله - تعالى - لأنها عبادة باطلة . يحتقرها العقلاء ، ويتنزه عنها كل إنسان يحترم نفسه .
فأنت تراه فى هذه الآية الكريمة يعلن احتقاره لآلهتهم ، وبراءته من شركهم ، واستخفافه بأصنامهم التى زعموا أن بعضها قد أصابوا بسوء ، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله - تعالى - وإشهادهم .
وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا ، وقلت فى حقك كذا وكذا . . فافعل أنت ما بدا لك ! ! .
وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء !
وهنا لم يبق لهود إلا التحدي . وإلا التوجه إلى الله وحده والاعتماد عليه . وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين . وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب :
( قال إني أشهد الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . .
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقا . وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة .
وهو يشهد الله ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم . ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم ؛ كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم !
وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه . ومع ثقة الإيمان واطمئنانه !
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا حمقى . يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلا فيهذي ؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانا من أثر المس ! يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة ، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم ؛ ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي . لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم ، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم .
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد . ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب . .
إنه الإيمان . والثقة . والاطمئنان . . الإيمان بالله ، والثقة بوعده ، والاطمئنان إلى نصره . . الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة . لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين جنبيه ، وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب ، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب .
( قال : إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ) .
إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه . واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم : أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن نّقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمّ لاَ تُنظِرُونِ } .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره ، عن قول قوم هود أنهم قالوا له ، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه ، وخلع الأوثان والبراءة منها : لا نترك عبادة آلهتنا ، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمها والنهي عن عبادتها أنه أصابك منها خبل من جنون فقال هود لهم : إني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أيضا أيها القوم أني بريء مما تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه ، فَكِيدُونِي جمِيعا يقول : فاحتالوا أنتم جميعا وآلهتكم في ضرّي ومكروهي ، ثُمّ لا تُنْظِرُونِ يقول : ثم لا تؤخرون ذلك ، فانظروا هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن آلهتكم نالتني به من السوء .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : أصابتك الأوثان بجنون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : أصابك الأوثان بجنون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا ابن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن عيسى ، عن مجاهد : إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : سبَبْت آلِتها وعبتها فأجنّتك .
قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أصابك بعض آلهتنا بسوء يعنون الأوثان .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : أصابك الأوثان بجنون .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : تصيبك آلهتنا بالجنون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : ما يحملك على ذمّ آلهتنا ، إلا أنه أصابك منها سوء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قال : إنما تصنع هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : أصابتك آلهتنا بشرّ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يقولون : نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء ، ولا نحب أن تعتريك ، يقولون : يصيبك منها سوء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : إنْ نَقُولُ إلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يقولون : اختلط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا .
وقوله : اعْتَرَاكَ افتَعَل ، من عراني الشيء يعروني : إذا أصابك ، كما قال الشاعر :
وقولهم : { إن نقول } الآية ، معناه ما نقول إلا أن بعض الآلهة لما سببتها وضللت عبدتها أصابك بجنون ، يقال : عر يعر واعترى يعتري إذا ألم بالشيء{[6391]} .