ثم قال تعالى : { والأرض وضعها للأنام } في مباحث :
الأول : هو أنه قد مر أن تقديم الاسم على الفعل كان في مواضع عدم الاختصاص وقوله تعالى : { للأنام } يدل على الاختصاص ، فإن اللام لعود النفع نقول : الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) ما قيل : إن الأنام يجمع الإنسان وغيره من الحيوان ، فقوله { للأنام } لا يوجب الاختصاص بالإنسان ( ثانيهما ) أن الأرض موضوعة لكل ما عليها ، وإنما خص الإنسان بالذكر لأن انتفاعه بها أكثر فإنه ينتفع بها وبما فيها وبما عليها ، فقال { للأنام } لكثرة انتفاع الأنام بها ، إذا قلنا إن الأنام هو الإنسان ، وإن قلنا إنه الخلق فالخلق يذكر ويراد به الإنسان في كثير من المواضع .
ومن ثم يرتبط الحق في الأرض وفي حياة البشر ، ببناء الكون ونظامه . يرتبط بالسماء في مدلولها المعنوي حيث يتنزل منها وحي الله ونهجه . ومدلولها المنظور حيث تمثل ضخامة الكون وثباته بأمر الله وقدرته . . ويلتقي هذان المدلولان في الحس بإيقاعهما وظلالهما الموحية .
( والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام . والحب ذو العصف والريحان ) .
ونحن لطول استقرارنا على هذه الأرض ، وألفتنا لأوضاعها وظواهرها ، ولوضعنا نحن كذلك عليها . نحن لهذا كله لا نكاد نحس يد القدرة التي " وضعت " هذه الأرض للأنام . وجعلت استقرارنا عليها ممكنا وميسورا إلى الحد الذي لا نكاد نشعر به . ولا ننتبه إلى ضخامة معنى الاستقرار ، وعظمة نعمة الله علينا فيه إلا بين الحين والحين حين يثور بركان ، أو يمور زلزال ، فيؤرجح هذه الأرض المطمئنة من تحتنا ، فتضطرب وتمور . عندئذ نتذكر معنى الاستقرار الذي نستمتع به على هذه الأرض بنعمة الله .
والبشر خليقون أن يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة ، لو أنهم ألقوا بالهم إلى أن أرضهم هذه التي يركنون إليها ، إن هي إلا هباءة سابحة في فضاء الله الوسيع . هباءة تسبح في هذا الفضاء المطلق . تسبح حول نفسها بسرعة نحو ألف ميل في الساعة . وتسبح - مع هذا - حول الشمس بسرعة ستين ألف ميل في الساعة . بينما هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها تبعد بجملتها في هذا الفضاء بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة متجهة في اتجاه واحد نحو برج الجبار في السماء !
أجل لو أنهم ألقوا بالهم إلى أنهم محمولون على هذه الهباءة السابحة التي تنهب الفضاء نهبا بهذه السرعة ، معلقة في أجوازه بغير شيء إلا قدرة الله . . لظلوا أبدا معلقي القلوب والأبصار ، واجفي الأرواح والأوصال ، لا يركنون إلا للواحد القهار الذي وضع الأرض للأنام ، وأقرهم عليها هذا الإقرار ! !
والأرض وضعها : خلقها موضوعة مخفوضة .
10-{ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ } .
بسط الله الأرض ، وذلل طرقها ، وأرسى جبالها ، وسخّر بها الماء والبحار والأنهار والأشجار ، ليستفيد بها الأنام ، أي الناس جميعا ، أو المخلوقات من الإنس والجن ، والحيوان والأسماك ، والطيور وسائر المخلوقات ، وكل ما على وجه الأرض .
{ والأرض وَضَعَهَا } خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد ، وقال الراغب : الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر ، وقيل : أي خفضها مدحوّة على الماء ، والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوّة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس ، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده { لِلأنَامِ } قال ابن عباس . وقتادة . وابن زيد . والشعبي . ومجاهد على ما في مجمع البحرين : الحيوان كله ، وقال الحسن : الإنس والجن .
وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي الله تعالى عنه ، ففي «القاموس » الأنام الخلق أو الجن والإنس ، أو جميع ما على وجه الأرض ، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناءاً على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم ، والأولى عندي ما حكى عنه أولاً ، وقرأ أبو السمال { والارض } بالرفع .
هذا ومن باب الإشارة : { والارض } أرض البشرية { وَضَعَهَا } بسطها وفرشها { لِلاْنَامِ } [ الرحمن : 10 ] للقوى الإنسانية
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.