مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَلَآ إِنَّهُم مِّنۡ إِفۡكِهِمۡ لَيَقُولُونَ} (151)

قوله تعالى : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ، أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ، ولد الله وإنهم لكاذبون ، اصطفى البنات على البنين ، ما لكم كيف تحكمون ، أفلا تتذكرون ، أم لكم سلطان مبين ، فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ، وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون ، سبحان الله عما يصفون ، إلا عباد الله المخلصين }

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها وسخافتها ، ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله سبحانه وتعالى ، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون } وهذا معطوف على قوله في أول السورة : { فاستفتهم أهم أشد خلقا من خلقنا } وذلك لأنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض إلى أن أمره بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولأنفسهم البنين ، ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشا وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا : الملائكة بنات الله ، واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما : إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت ، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق والثاني : إثبات أن الملائكة إناث ، وهذا أيضا باطل لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر .

أما الحس : فمفقود ههنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله : { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } وأما الخبر : فمنقود أيضا لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقا قطعا وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون .

لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة ، وهو المراد من قوله : { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون } وأما النظر : فمفقود وبيانه من وجهين الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب . لأن الله تعالى أكمل الموجودات ، والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس وهو المراد من قوله { اصطفى البنات على البنين ، ما لكم كيف تحكمون } يعني إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب عند العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل ، فإن كان حكم العقل معتبرا في هذا الباب كان قولكم باطلا والوجه الثاني : أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم ، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله : { أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته ، لا الحس ولا الخبر ولا النظر ، فكان المصير إليه باطلا قطعا ، واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل ، وأن الدين لا يصح إلا بالدليل .