وقوله سبحانه : { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا } الخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا { مّنكُمْ } يا رجال { مَلَائِكَةٌ } كما ولدنا عيسى من غير أب { فِى الارض يَخْلُفُونَ } أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفاً ونسلاً لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليداً كما تخلق إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة ، وجوز أن يكون معنى لجعلنا الخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و { مَلَئِكَةٌ } مفعول ثان أو حال ، وقيل : من للبدل كما في قوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] وقوله :
ولم تذق من البقول الفستقا *** أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم ، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد ، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام ، وقيل : لا مانع من قصدهما معاً نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولاً .
وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ } [ الزخرف : 59 ] الخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] الخ وإن تقريره إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوماً أهلاً للنار وآخرين أهلاً للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيداً مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] اه .
وعلى ما ذكرنا أن الكلام في ابطال قد تم عند قوله تعالى : { خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاء } الخ لنفي الاعتراض ليس بشيء . وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال : خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح ، واليهود عزيرا ، وبنو مليح الملائكة ؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ } [ الأنبياء : 101 ] الآية أو نزلت هذه الآية ، وأنكر بعضهم السكوت ، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام : خصمتك رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل ، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام : أنت قلت : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } ؟ قال : نعم قال : أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] وهذا أثبت من الخبر الذي قبله . وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا الخ ، وقوله عليه الصلاة والسلام : هو لكم الخ بأنه ليس بثبت .
وذكر من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملاً بما تقتضيه كلمة { مَا } لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام : بل هم يعبدون الشيطان كما نطق به قوله تعالى : { سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] الآية ، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر . وفي «الدر المنثور » أخرج الإمام أحمد . وابن أبي حاتم . والطبراني . وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله تعالى صالحاً فإن كنت صادقاً فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً } [ الزخرف : 57 ] الخ ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات ، وقيل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] قالوا : نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدمياً ونحن نعبد الملائكة فنزلت ، فالمثل ما في قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى } الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقاً بشراً قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم : { أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } [ الزخرف : 58 ] فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلهاً مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون ، ثم قوله سبحانه : { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ } دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالداً وإبداعاً فلا يصلح القسمان للإلهية . وفي رواية عن ابن عباس . وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى } الآية قالت قريش : ما أراد محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى .
ومعنى { يصدون } [ الزخرف : 57 ] يضجون ويضجرون ، والضمير في { أَمْ } [ الزخرف : 58 ] هو لنبينا عليه الصلاة والسلام ، وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام ، وقوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاء } الخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله عليه وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضاً عن درجة المعبودية بقوله سبحانه : { وَلَوْ نَشَاء } الخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة ، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى : { أَمْ هُوَ } مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ } [ الزخرف : 59 ] وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه ، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله عليه وسلم ، ولعل الرواية عن الحبر غير ثابتة ، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم : الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا : ما قلنا بدعاً من القول ولا فعلنا منكراً من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولاً وفعلاً حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي ، وقوله تعالى : { وَلَوْ نَشَاء } الخ عليه كما في الوجه الثاني .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أي : لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض ، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم ، وأما أنتم يا معشر البشر ، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة ، فمن رحمة الله بكم ، أن أرسل إليكم رسلا من جنسكم ، تتمكنون من الأخذ عنهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} مكانكم، فكانوا خلفا منكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ" يقول تعالى ذكره: ولو نشاء معشر بني آدم أهلكناكم، فأفنينا جميعكم، وجعلنا بدلاً منكم في الأرض ملائكة يخلفونكم فيها يعبدونني، وذلك نحو قوله تعالى ذكره: "إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها النّاسُ وَيأْتِ بآخَرِينَ وكانَ اللّهُ على ذلكَ قَدِيرا "وكما قال: "إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدكُمْ ما يَشاءُ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة} على وجهين:
أحدهما: أي لو نشاء لجعلنا من جوهركم وجنسكم ملائكة ليُعلم أن إنشاء الملائكة من النور على ما ذكر ليس ذلك منه استعانة بذلك النور لإنشاء الملائكة منه لأنه قادر بذاته، ولا يُعجزه شيء؛ يُنشئ ما يشاء ممّا شاء، وكيف شاء.
والثاني: أي لو نشاء لجعلنا الملائكة بدلا منكم، لكن لم يفعل ذلك لما ليس في عصيان من عصاه ولا مخالفة من خالفه له ضرر، ولا بطاعة من أطاعه، واتبع أمره، ونهيه نفع، ولا أنشأ هذا العالم والخلق لحاجة نفسه ولا امتحنهم بأنواع المحن لمنفعة نفسه ولا لمضرّة يدفع بذلك عن نفسه، ولكن أنشأهم، وامتحنهم لحاجة أنفسهم...
{ملائكة في الأرض يخلُفون} يحتمل وجهين:
أحدهما: أي يخلُف الملائكة بعضهم بعضا قرنا عن قرن بالتناسل والتوالد كالبشر يخلُف بعض بعضا قرنا عن قرن بالتناسل والتوالد؛ إذ ليس في الملائكة توالد وتناسل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ نَشآءُ} لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر.
{لَجَعَلْنَا مِنكُمْ} لولدنا منكم يا رجال.
{مَلَئِكَةٌ} يخلفونكم في الأرض كما يلخفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لو نشاء لأسكنا الأرض الملائكة، وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يُعبَدوا أو يقال لهم بنات الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء، فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عند سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بياناً؟ لا أنيس بها، عطف عليه قوله: {ولو} معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال: {نشاء لجعلنا} أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام {منكم ملائكة في الأرض يخلفون}.
ويجوز أن يكون المعنى: لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء، وإن شاء في الأرض، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الاعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلا من جنسكم، تتمكنون من الأخذ عنهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما أشارت الآية السابقة إلى إبطال ضلالة الذين زعموا عيسى عليه السلام ابناً لله تعالى، من قَصره على كونه عبداً لله أنعم الله عليه بالرسالة، وأنه عبرة لبني إسرائيل عُقب ذلك بإبطال ما يماثل تلك الضلالة، وهي ضلالة بعض المشركين في ادعاء بنوة الملائكة لله تعالى المتقدم حكايتها في قوله: {وجَعَلوا له من عباده جُزءاً} [الزخرف: 15] الآيات فأشير إلى أن الملائكة عباد لله تعالى جعَل مكانهم العوالم العليا، وأنه لو شاء لجعلهم من سكان الأرض بدلاً عن الناس، أي أن كونهم من أهل العوالم العليا لم يكن واجباً لهم بالذات وما هو إلا وضعٌ بجعل من الله تعالى كما جعل للأرض سكاناً، ولو شاء الله لعكس فجعل الملائكة في الأرض بدلاً عن الناس.
وجُعِل شرط {لو} فعلاً مستقبلاً للدلالة على أن هذه المشيئة لم تزل ممكنة بأن يعوِّض للملائكة سكنى الأرض.
ومعنى (مِن) في قوله: {منكم} البدلية والعِوَض كالتي في قوله تعالى: {أرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38].
والمجرور متعلق ب (جعلنا)، وقُدّم على مفعول الفعل للاهتمام بمعنى هذه البَدَلية لتتعمق أفهام السامعين في تدبرها.
وجملة {في الأرض يخلفون} بيان لمضمون شبه الجملة إلى قوله: {منكم} وحذف مفعول
{يخلفون} لدلالة {منكم} عليه، وتقديم هذا المجرور للاهتمام بما هو أدل على كون الجملة بياناً لمضمون {منكم}. وهذا هو الوجه في معنى الآية وعليه درج المحققون.
ومحاولة صاحب « الكشاف» حمل {منكم} على معنى الابتدائية والاتصال لا يلاقي سياق الآيات.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنّه يصر عليها، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) ملائكة تخضع لأوامر الله، ولا تعرف عملاً إلاّ طاعته وعبادته.
واختار جمع من المفسّرين تفسيراً آخر للآية، يصبح معنى الآية على أساسه: ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب، فإنّ الله عز وجل قادر على أن يخلق ملكاً من الإِنسان، وهو نوع يختلف عنه.
ولما كان تولد الملك من الإِنسان لا يبدوا مناسباً، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة، وقالوا: إن المراد: لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى، وإبراء المرضى بإذن الله، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله، فإنّ الله قادر على أن يخلق من أبنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم.
إلاّ أن التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع، وهذه التفاسير بعيدة.