{ يُنبِتُ } أي الله عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت ، وقيل : يقال أنبت الشجر لازماً وأنشد الفراء :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم . . . قطيناً بها حتى إذا أنبت البقل
أي نبت ، وكان الأصمعي ينكر مجىء أنبت بمعنى نبت . وقرأ أبو بكر { *ننبت } بنون العظمة ، والزهري { تُسِيمُونَ يُنبِتُ } بالتشديد وهو للتكثير في قول ، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية . وقرأ أبي { يُنبِتُ } بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية ، وجملة ينبت { لَكُمْ بِهِ } أي بما أنزل من السماء { الزرع والزيتون والنخيل والاعناب } يحتمل أن تكون صفة أخرى لماء وأن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل : وهل له منافع أخر ؟ فقيل : ينبت لكم به الخ ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة ، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفاً مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداءً ، وتقديم الزرع على ما عداه قيل : لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعي ، ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث أنه أدام من وجه وفاكهة من وجه ، وقد ذكر الأطباء له منافع جمة ، وذكر غير يسير منها في التذكرة ، والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته .
واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك ، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء ، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيراً ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك ، نعم الزيتون أكثر دواماً منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيراً ما يقتات بها حتى جاء في الخبر «ما جاع بيت وفيه تمر » وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر ، وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة ، وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة .
وقد ذكر في «القاموس » عدة منها ، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في قوله : إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك ، وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب اه ، ولينظر هذا مع عدهم أفعالاً من جموع القلة ، ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه ، والظاهر أن المراد هو الثاني .
وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب إن ثمرتها فاكهة محضة ، وفيه إنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طرياً قبل أن يتزبب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم ، وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في الزبيب اقتياتاً بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الأرز ، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث ، وفي جمع النَّخِيلِ والأعناب إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفاً ، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر اه ، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا ، وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك على ما قال الإمام للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه ، والعكس في قوله تعالى : { كُلُواْ * وارعوا أنعامكم } [ طه : 54 ] للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة ، وهو على طبق ما ورد في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » وقيل : لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى ، وقيل : لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر ، وقال شهاب الدين في وجه ذلك . ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن ، كما قيل : من الظرف هبة الهدية مع الظرف اه ولا يخلو عن حسن .
والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى : { لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } [ النحل : 10 ] ما يشرب ، وأما ما قيل : إن ما قدم من الغذاء غذاء للإنسان أيضاً لكن بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد : كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة ، لا يقال : هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول : ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه : { وَمِن كُلّ الثمرات } وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك ، منه { يُنبِتُ } إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل في :
غلفتها تبناً وماءً بارداً . . . كذا قيل وفيه تأمل ، ومنع بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وفاكهة وَأَبّاً } [ عبس : 27-31 ] وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره ، و { مِنْ } للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات ، وإنما قيل ذلك لما في «الكشاف » وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة ، وقال بعض الأجلة : المراد بعض مما في بقاع الإمكان من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود ، وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله { إِنَّ في ذَلِكَ } المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل { لآيَةً } عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلاً عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ولله تعالى در من قال :
تأمل في رياض الورد وانظر . . . إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات . . . على أهدابها ذهب سبيك
على قضب الزبر جد شاهدات . . . بأن الله ليس له شريك
وحيث كان الاستدلال بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.