روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ تَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (3)

ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلاً : { خلقَ السموات والأرض بالحق } . وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى في أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل واحد يكفي صارفاً للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدارة السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتى الرعاية والهداية ، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه : { واصبر } [ النحل : 127 ] إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز ؛ والمراد بالسموات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة ، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبساً بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد الألوهية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ؛ ولذا عقب هذا بقوله تعالى : { تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

وقرأ الأعمش { فتعالى } بالفاء ، و { مَا } يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم ، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد ، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة ، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقاً ، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر ، وقرأ الكسائي { تُشْرِكُونَ } بالتاء .

( هذا ومن باب الإشارة ) : ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال : { خلِقَ السموات والأرض بالحق } [ النحل : 3 ] الخ .