التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} (46)

لما كان الاختصام بين الفريقين في شأن صالح ابتداء جيء بجواب صالح عما تضمنه اختصامهم من محاولتهم إفحامه بطلب نزول العذاب . فمقول صالح هذا ليس هو ابتداء دعوته فإنه تقدم قوله : { أن اعبُدوا الله } [ النمل : 45 ] ولكنه جواب عمّا تضمنه اختصامهم معه ، ولذلك جاءت جملة : { قال يا قوم } مفصولة جرياً على طريقة المحاورة لأنها حكاية جواب عما تضمنه اختصامهم .

واقتصر على مراجعة صالح قومَه في شأن غرورهم بظنهم أن تأخر العذاب أمارة على كذب الذي توعدهم به فإنهم قالوا : { فآتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين } [ الأعراف : 70 ] كما حكي عنهم في سورة الأعراف لأن الغرض هنا موعظة قريش في قولهم : { فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] بحال ثمود المساوي لحالهم ليعلموا أن عاقبة ذلك مماثلة لعاقبة ثمود لتماثل الحالين قال تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب ولَيَأتِينّهم بغتة وهم لا يشعرون } [ العنكبوت : 53 ] .

والاستفهام في قوله : { لم تستعجلون } إنكار لأخذهم بجانب العذاب دون جانب الرحمة .

ف { السيئة } : صفة لمحذوف ، أي بالحالة السيئة ، وكذلك { الحسنة } .

فيجوز أن يكون المراد ب { السيئة } الحالة السيئة في معاملتهم إياه بتكذيبهم إياه . والمراد بالحسنة ضدّ ذلك ، أي تصديقهم لما جاء به ، فالاستعجال : المبادرة . والباء للملابسة . ومفعول { تستعجلون } محذوف تقديره : تستعجلونني متلبسين بسيئة التكذيب . والمعنى : أنه أنكر عليهم أخذهم بطرف التكذيب إذ أعرضوا عن التدبر في دلائل صدقه ، أي إن كنتم مترددين في أمري فافرضوا صدقي ثم انظروا . وهذا استنزال بهم إلى النظر بدلاً عن الإعراض ، ولذلك جمع في كلامه بين السيئة والحسنة .

ويجوز أن يكون المراد ب { السيئة } الحالةَ السيئة التي يترقبون حلولها ، وهي ما سألوا من تعجيل العذاب المحكي عنهم في سورة الأعراف ، وب { الحسنة } ضد ذلك أي حالة سلامتهم من حلول العذاب ف { السيئة } مفعول { تستعجلون } والباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل ما في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .

والمعنى : إنكار جعلهم تأخيرَ العذاب أمارةً على كذب الوعيد به وأن الأولى بهم أن يجعلوا امتداد السلامة أمارة على إمهال الله إياهم فيتقوا حلول العذاب ، أي لِمَ تبْقَون على التكذيب منتظرين حلول العذاب ، وكان الأجدر بكم أن تبادروا بالتصديق منتظرين عدم حلول العذاب بالمرة . وعلى كلا الوجهين فجواب صالح إياهم جار على الأسلوب الحكيم بجعل يقينهم بكذبه محمولاً على ترددهم بين صدقه وكذبه .

وقوله : { قبل الحسنة } حال من { السيئة } . وهذا تنبيه لهم على خطئهم في ظنهم أنه لو كان صالح صادقاً فيما توعدهم به لعَجّل لهم به ، فما تأخيره إلا لأنه ليس بوعيد حق ، لأن العذاب أمر عظيم لا يجوز الدخول تحت احتماله في مجاري العقول . فالقبلية في قوله : { قبل الحسنة } مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة ، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة .

وظاهر الاستفهام أنه استفهام عن علة استعجالهم ، وإنما هو استفهام عن المعلول كناية عن انتفاء ما حقه أن يكون سبباً لاستعجال العذاب ، فالإنكار متوجه للاستعجال لا لعلته .

ثم أُعقب الإنكار المقتضي طلب التخلية عن ذلك بتحريضهم على الإقلاع عن ذلك بالتوبة وطلب المغفرة لما مضى منهم ويرجون أن يرحمهم الله فلا يعذبهم ، وإن كان ما صدر منهم موجباً لاستمرار غضب الله عليهم ، إلا أن الله برحمته جعل التائب من الذنب كمن لم يذنب .