التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (74)

وقع في سورة الحِجْر ( 31 ) { إلا إبليس أبى } وفي هذه السورة { إلا إبليس استكْبَر } فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإِباية . ووقعت هنا زيادة { وكانَ مِنَ الكافِرينَ } ، وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر ( 31 ) من قوله : { أن يكون مع الساجدين } الإِبَاية من الكون من الساجدين لله ، أي المنزهي الله عن الظلم والجهل .

ووقع في هذه السورة { وكان من الكافرين } ، ومعناه أنه كان كافراً ساعتئذٍ ، أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبلُ كافراً ، ففعل { كان } الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت .

قال الزجّاج : « ( كان ) جَارٍ على باب سائر الأفعال الماضية إلاّ أن فيه إخباراً عن الحَالة فيما مضى ، إذا قلت : كان زيد عالماً ، فقد أنبأتَ عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا ، وإذا قلت : سيكون عالماً فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل ، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال » اهـ .

وقد بدتْ من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان ، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان . فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأُمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك مورِياً زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره .

وهذا ناموس خُلُقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره ، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة ، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها . وقد مُدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير ، فقال عمر : هل أريتموه الأبيضَ والأصفر ؟ يعني الدراهم والدنانير . وقال الشاعر :

لا تمدحَنَّ امرأً حتّى تُجرّبه *** ولا تذمَّنَّه من قبل تجريب

إن الرجال صناديقُ مقفَّلـة *** وما مفاتيحها غَير التجاريب

ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعلمه ، وذلك كفر لا محالة ، وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حَقّ خلافاً للخوارج وكذلك المعتزلة .