التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (74)

هذا التوجيه يؤدي إلى التساؤل عما إذا كان العرب يعرفون ما يرمز إليه تعبير إبليس ، وعما إذا كانوا يعرفون كذلك قصة آدم والملائكة وإبليس ؛ لأن استحكام الحجة عليهم والتأثر بالعظة والعبرة منوطان بذلك على ما قررناه في المناسبات السابقة .

وللإجابة على النقطة الأولى ينبغي أن نبحث في كلمة إبليس . فهناك من يقول إنها معربة من كلمة ديابوليس اليونانية التي كانت ترمز إلى الشيطان الموسوس . وهناك من يقول : إنها عربية الجذر والاشتقاق والصيغة وإنها من جذر [ أبلس ] بمعنى يئس وعلى صيغة إفعيل مثل إزميل . وفي القرآن ورد اشتقاق من هذا الجذر بهذا المعنى في آيات سورة الروم هذه : { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون12 ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين13 } وفي آيات سورة الزخرف هذه : { إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون74 لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون75 } وقد أنكر الزمخشري عروبة الكلمة وقال : إنها أعجمية معربة واستدل على ذلك بامتناعها عن الصرف . غير أن ابن منظور صاحب لسان العرب ومفسرين آخرين رجحوا عروبتها . ونحن نرجح ذلك ما دام هناك جذري عربي فصيح وقرآني يمكن أن ترجع إليه الكلمة . ومما لا ريب فيه أن الكلمة كانت متداولة على لسان العرب قبل الإسلام . وتبعا لترجيح عروبتها الفصحى يمكن أن يقال : إنها نعت لا اسم وأنها نعت ذم وأن العرب كانوا يفهمون هذه الدلالة . ولقد ذكرنا في التعليق على كلمة الشيطان في سياق سورة التكوير أن كلمة { الشيطان } التي هي أيضا نعت ذم وتشنيع وردت في القرآن مرادفة لكلمة إبليس وأنها كانت مفهومة الدلالة عند العرب من حيث إنها كانت تطلق فيما تطلق عليه على العنصر الخفي الشرير الذي يوسوس للناس ويغويهم . وهذا يعني أن العرب كانوا يرادفون بين الشيطان وإبليس ويعرفون أن إبليس هو اسم آخر للشيطان الذي يوسوس للناس ويغويهم . ولقد قلنا في التعليق السابق الذكر إنهم يمكن أن يكونوا عرفوا دور الشيطان من أهل الكتاب . وهذا ينسحب على كلمة إبليس التي كان الكتابيون يرادفون بدورهم بينها وبين الشيطان .

وأما بالنسبة للنقطة الثانية فنقول : إن سفر التكوين من أسفار العهد القديم المتداول في أيدي الكتابين قد ذكر القصة ، وملخص ما جاء فيه أن الله خلق آدم من تراب وسواه ونفخ فيه نسمة الحياة ، ثم خلق حواء من ضلعه وأسكنهما في جنة أنشأها لهما في عدن شرقا ، وأباح لهما الأكل من كل شجرة إلا شجرة معرفة الخير والشر فنهاهما عن أكل ثمرها . ولكن الحية التي كانت أحيل جميع الحيوانات أغوت حواء وأغرتها بالأكل من هذه الشجرة قائلة لها : لن تموتا إذا أكلتما منها كما قال لكما الله ، وإن الله عالم أنكما في يوم تأكلان منها تتفتح أعينكما وتصيران كالآلهة وتعرفان الخير والشر . فأكلت حواء وأعطت بعلها فأكل . فانفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان فخاطا من ورق التين مآزر . وسمعا صوت الرب وهو يتمشى في الجنة فاختبآ من وجهه ، فنادى الرب آدم أين أنت ؟ قال : إني سمعت صوتك فخشيت لأني عريان فاختبأت . قال فمن أعلمك أنك عريان ؟ هل أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال : إن المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت . فسأل الرب المرأة فقالت : أغوتني الحية ، فغضب عليهما ربهما وأخرجهما من الجنة ليكدا ويتعبا في الأرض ويعرقا في سبيل أكل خبزهما بعد أن صنع لهما أقمصة من جلد ، ولعن الحية وآذنها بعداوة دائمة ضاربة بينها وبين ذرية آدم وحواء ، وأنذر حواء بمشقة الحمل والولادة وآلامهما إلخ . . . ] .

وهذا الملخص يتسق مع ما جاء عن القصة في سورة الأعراف بشيء من التباين حيث ذكر في الآيات إبليس بدلا من الحية وذكر فيها أمر الله للملائكة بالسجود لأدم وتمرد إبليس والحوار بينه وبين الله وبينه وبين آدم وحواء وهو ما لم يرد في سفر التكوين كما ترى في هذه الآيات : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين11 قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين12 قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين13 قال أنظرني إلى يوم يبعثون14 قال إنك من المنظرين15 قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم16 ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين17 قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين18 ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين19 فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا من الخالدين20 وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين21 فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ونادهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين22 قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين23 قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين24 قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون25 يا بني أدام قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون26 يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون27 } .

ومع المباينة التي بين الآيات وسفر التكوين فإن التوافق الكبير بينهما يجعلنا نميل إلى القول : إن القصة كما وردت في هذه السورة وغيرهما من السور لم تكن غريبة عن السامعين ؛ لأن أسلوبها تذكيري يلهم أنه بسبيل التذكير بشيء غير غريب ؛ لأن العبرة القرآنية إنما تتحقق بذلك . ونعتقد أن الكتابيين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يتداولون أسفارا وقراطيس لم تصل إلينا فيها شروح وحواش متسقة مع ما ورد في القرآن من القصة .

وأن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره عرفوها عن طريقهم بحيث يمكن أن يقال : إن المخاطبين بالقرآن لأول مرة كانوا يعرفون قصة آدم وإبليس وتمرد إبليس على الله وطرده من رحمته ودوره في إغواء الناس ، فاقتضت حكمة التنزيل أن تتلى عليهم لأول مرة في هذه السورة ، ثم تتكرر بأساليب متنوعة لما انطوى فيها من تلقينات ومواعظ وعبر وأهداف على النحو الذي شرحناه . وهكذا يصدق ما قلناه في تعليقنا على القصص القرآنية في سورة القلم من أن سامعي هذه القصص من العرب كانوا يعرفونها على هذه القصة أيضا .

وفي كتب التفسير روايات كثيرة عن أهل التأويل في الصدر الإسلامي الأول من ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وسعيد بن جبير وابن زيد وغيرهم في سياق هذه الآيات وآيات السور الأخرى التي وردت فيها القصة . كما أن في هذه الكتب أقوالا كثيرة للمفسرين أنفسهم في كيفية خلقه أدم والطينة التي جبل منها ونفخ الله من روحه فيه وخلق زوجته منه ، والجنة التي أسكنهما فيها ، والشجرة الممنوعة الخ معظمها تخمينية واجتهادية فيها السمين والغث والمتسق مع ما ورد في القصة في القرآن وسفر التكوين وغير المتسق . وفي بعضها كثير من الإغراب أيضا . ومثل هذا يقال في ما رووه وقالوه في صدد إبليس وماهيته وذريته وأسمائهم وأشكالهم وتفريخهم وأدوارهم . ولم نر طائلا في إيرادها لأنها ليست من أهداف القصة ولكنها تدل كما قلنا على أن القصة كانت مما يتداوله أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته وليس لذلك مصدر إلا الكتابيون فيهما . ولقد انجرّ بعضهم إلى بحوث علمية بسبيل التوفيق . ومنهم من رأى في القصة رموزا ومعاني تمثيلية . ومنهم من حاول أن يرى صلة بين خلود روح الإنسان بخاصة وبين تعبير نفخ الله من روحه في الإنسان الأول الذي خلقه من طين وصار أبا البشر . ومنهم من حاول أن يوفق بين هذه الآيات وبين الآيات الأخرى الواردة في صدد نشأة الكون والخلق ثم بينها وبين النظريات العلمية القائمة على ناموس التطور والاصطفاء والنشوء والبقاء أو نشوء جميع الأحياء من نبات وحيوان على مختلف المستويات من التراب والماء مما لا نرى طائلا ولا محلا له كذلك في مجال القصة وأهدافها .

ومن غريب ما عزي إلى ابن عباس وبعض التابعين مثل قتادة والضحاك أن إبليس كان من الملائكة بل كان من أشرافهم ، وكان خازنا للسماء وللجنة . وأنه لو لم يكن من الملائكة لما أمر بالسجود ؛ لأن الله أمر الملائكة بالسجود فسجدوا وتمرد إبليس . أي أمر معهم بالسجود ؛ لأنه منهم وعزي إليهم إزاء آية الكهف التي تصف إبليس بأنه من الجن وهي : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . . . } [ 50 ] أن الجن الذين منهم إبليس هم قبيلة من الملائكة مع أن في سورة سبأ آية جمعت بين الجن والملائكة كخلقين مختلفين بل متعاكسين وهي : { ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون40 قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون41 } ومع أن القرآن جمع إبليس مع الجن في أصل الخلقة ؛ حيث قرر في الآيات التي نحن في صددها وأمثالها أن إبليس خلق من نار وقرر في آيات عديدة أن الجن خلقوا من النار أيضا مثل آية سورة الرحمان هذه : { وخلق الجان من مارج من نار15 } وآية سورة الحجر هذه { والجان خلقناه من قبل من نار السموم27 } في حين أن هناك حديثا رواه مسلم والإمام أحمد عن عائشة ذكر فيه أن الله خلق الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار .

ونلاحظ أولا : أن القرآن في صدد ماهية إبليس قد قرر بعض التقريرات التي منها أنه كان من الجن كما جاء في آية سورة الكهف التي أوردناها آنفا . مع تقرير أن الجن خلقوا من النار كما جاء في آيات سورتي الحجر والرحمان التي أوردناها وغيرها . وحكى قول إبليس أنه هو نفسه خلق من نار كما جاء في آيات قصته التي نحن في صددها وفي السور الأخرى . وقد ذكره بمفرده كما في آيات القصة وأحيانا هو وذريته كما في آية سورة الكهف المذكورة آنفا وأحيانا هو وجنوده كما في آية سورة الشعراء هذه : { وجنود إبليس أجمعون95 } وذكر الشيطان مرادفا له بصيغة المفرد كما في آية سورة الأعراف [ 11 ] التي أوردناها آنفا ، وبصيغة الجمع كما في نفس الآية ، وذكره هو وقبيله كما في نفس الآية ، وعزا على إبليس والشيطان وفروعهما إغواء الناس وإضلالهم وتزيينهم لهم الفساد والكفر والإثم كما ورد في الآيات التي أوردناها وكثير غيرها وحكى ما جرى من حوار في صدد ذلك بين الله تعالى وإبليس وبين إبليس وآدم ، ووقف عند هذا الحد .

وثانيا : أن القرآن في صدد ماهية آدم وخلقه كرر ما قرره في الآية التي نحن في صددها بشيء من الخلاف الأسلوبي ، وذكر مع ذلك في بعض الآيات خلق الإنسان من طين بدون ذكر آدم وسجود الملائكة كما جاء في آيات سورة المؤمنون هذه : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين12 ثم جعلناه نطفة في قرار مكين13 } ووقف عند هذا الحد .

وثالثا : أن القرآن أورد كل ما أورده في صدد آدم وإبليس بأسلوب التذكير والعظة لا بأسلوب تقرير واقعة لذاتها . وتكرار القصة من تنوع صيغتها وسياقها في كل مرة وردت فيها مما يدل على ذلك فضلا عن الأسلوب . فالأولى- فيما نرى من وجهة التفسير القرآني- الوقوف عند الحد الذي وقف عنده القرآن أو اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه في صددها بدون تزيد ولا تخمين ، مع الإيمان بما احتوته الآيات القرآنية من صور وعدم التورط في تخمين الكيفيات التي لم تقتض حكمة التنزيل بيانها ، ومع ملاحظة أن هذه القصة هي مثل سائر القصص من قسم القرآن الثاني الذي سميناه بالوسائل ، والذي يمكن أن يدخل في نطاق المتشابهات اللاتي ذكرت في آية سورة آل عمران مقابل الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب والتي ليست الإحاطة بماهيتها من الضرورات الدينية ، وأن هدفها هو التدعيم والعبرة والعظة ، وأنه ليس في التخمين والتزيد طائل كما أنهما لا ينسجمان مع الهدف القرآني ، ونرى في الوقت نفسه أن ما نقله المفسرون من الروايات دليل على أن أشياء كثيرة حول آدم وإبليس كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعهده ، منها ما مصدره أسفار العهد القديم ومنها ما كان يتناقله الكتابيون على هامشها من شروح وحواش من الجائز أن تكون وردت في قراطيس كانت عندهم ولم تصل إلينا وبكلمة أخرى إن هذه القصة كانت معلومة عند السامعين ، فأوحى الله بها في القرآن استهدافا للعظة والإنذار والتدعيم .

أما ما جاء في هذه الآيات وغيرها من دور إبليس والشيطان وأعوانهما في إغراء الناس وإغوائهم ، ومن صراحة القرآن بموافقة الله عز وجل على قيامه بهذا الدور كما جاء في آيات أخرى منها آيات سورة الإسراء هذه التي جاء فيها ذلك بصراحة : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا63 واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا64 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا65 } فيمكن أن يقال في صدده : إن من واجب المسلم الإيمان به ما دام القرآن قد أخبر به دون تورط كذلك في التخمين ومع الإيمان بأن لذلك حكمة يمكن أن تكون قصد تقرير كون الناس معروضين للاختبار وأنهم بعد أن يكون الطريق قد وضح لهم بواسطة رسل الله يصبحون مدعووين لاختيار ما فيه الصلاح والخير والحق . فالذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وبرئوا من الهوى والعناد يستجيبون ولا يتأثرون بوسوسة الشيطان . وهم الذين قالت الآيات إنهم المخلصون الذين ليس لإبليس سلطان عليهم . أما الذين خبثت نياتهم وغلظت قلوبهم وتغلب عليهم الهوى والعناد فهم الذين لا يستجيبون لداعي الله ويتأثرون بوسوسة الشيطان وهم أتباع إبليس الذين قالت الآيات إن الله سيملأ بهم جهنم . ويندمج في هذا تقرير القرآن لمعنى كون الناس غير واقعين في أمر محتم عليهم منذ الأزل ليس لهم منه مناص ؛ لأنهم لو كانوا كذلك لما كان مجال لامتحان الله وتسلط إبليس عليهم بالوسوسة والإغراء . ولما كان محل للقول : إن عباد الله الصالحين المخلصين لن يتأثروا بالوسوسة والإغراء لأن تأثير أولئك وعدم تأثر هؤلاء إنما يكون معقولا بسبب الاختيار وحرية الإرادة والاستجابة سلبا وإيجابا . وبعبارة أخرى قصد الإنذار والتنبيه والتحذير والتطمين والبشرى .

ولقد ذكر المفسرون أقوالا في صدد أسباب شمول الخطاب الرباني بالسجود لإبليس مع أن الخطاب موجه للملائكة وفي صدد الأمر بطرد إبليس من الجنة مع آدم وزوجته وإهباطهم إلى الأرض ليكون بعضهم عدوا لبعض ، ثم في صدد ما ورد في القرآن من كون الله قد قصد في الأصل بخلق آدم وزوجته أن يجعل في الأرض خليفة مما هو متناقض في الظاهر مع ما تفيده الآيات من أن هبوطهما من الجنة إلى الأرض كان عقوبة لهما ، ومن محاورة الله مع الملائكة حول ذلك ، ومن تعليم آدم الأسماء كلها الخ كما جاء في آيات سورة البقرة هذه : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون30 وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين31 قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم32 } وجل الأقوال في نطاق التخمين .

هذا ، ولقد أورد مؤلف كتاب التاج في فصل التفسير وفي سياق آيات القصة نفسها في سورة البقرة بعض الأحاديث النبوية . منها : حديث رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة قال : ( أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله عز وجل التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ) .

وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ثم قال : اذهب فسلم على أولئك من الملائكة واستمع ما يحيونك ، وهي تحيتك وتحية ذريتك فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله . فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن ) . وفي رواية الترمذي : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله فقال له ربه رحمك الله يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة فقل : السلام عليكم قالوا وعليك السلام ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال : إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم . فقال الله له ويداه مقبوضتان : اختر أيهما شئت ؟ قال : اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته قال : يا رب ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك . فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه ) . وحديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب ) .

وقد يكون هناك أحاديث أخرى من باب هذه الأحاديث وردت في كتب التفسير أو كتب الحديث الأخرى . ولسنا نرى فيها نقضا لشرحنا وتعليقاتنا المتقدمة وبخاصة لما تبادر لنا من أهداف القصة . ونقول فيما جاء فيها من أمور مغيبة وماهيات : إن من واجب المسلم أن يؤمن بما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر ويقف عنده ولو لم يدرك حكمته ومداه ويفوض الأمر إلى الله ورسوله كما هو الشأن بالنسبة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة في شؤون أخرى مماثلة مرت أمثلة لها وسيأتي أمثلة عديدة لها . ولا سيما إن هذه المسألة وأمثالها ليست من أركان الدين المحكمة التي يجب على المسلم معرفتها والعمل بها . ويكفي أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث الثابت فيها والله تعالى أعلم .

وما قلناه آنفا ينسحب على هذا . فالقصة وحواشيها إنما جاءت في معرض العظة وليس من طائل في التوسع ولا ضرورة . ولا يتصل بجوهر الهدف القرآني والأولى أن يوقف منها عند ما وقف القرآن والإيمان به مع ملاحظة الهدف الذي استهدفه منها .

كذلك كانت هذه القصة وسيلة إلى الجدل والتشاد والبحوث الكلامية والمذهبية سواء أكان فيما يتعلق بالإغواء والاختيار وتحتيم الجنة والنار على الناس منذ الأزل ، أم فيما يتعلق بتعبير يد الله وروحه الذي ورد في الآيات التي نحن بصددها وأمثالها ، أم في موضوع التفاضل بين الأنبياء والملائكة الذي لوحظ في عبارات آيات البقرة [ 30-32 ] لأن آدم كان من الأنبياء حسب التقاليد الإسلامية ، وكل هذا لا يدخل في نطاق الهدف القرآني للقصة فلا طائل من ورائه كما أن فيه تحميلا للعبارات القرآنية ما لا تتحمله .