التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (124)

َفرع على الإنكار والتوبيخ الوعيدَ بقوله : { فسوف تعلمون } ، وحذف مفعول { تعلمون } لقصد الإجمال في الوعيد لإدخال الرعب ، ثم بيّنه بجملة { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } . ووقوع الجمع معرفاً بالإضافة يكسبه العموم فيعم كل يدَ وكل رجْل من أيدي وأرجل السحرة .

و { منْ } في قوله : { من خلاف } ابتدائية لبيان موضع القطع بالنسبة إلى العضو الثاني ، وقد تقدم بيان نظيرها عند قوله تعالى : { أو تُقطّعُ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهمْ من خلاف } في سورة المائدة ( 33 ) . فالمعنى : أنه يقطع من كل ساحر يداً ورجلاً متخالفتي الجهة غير متقابلتيها ، أي : إنْ قطعَ يدَه اليمنى قطعَ رجله اليسرى والعكس ، وإنما لم يقطع القوائم الأربع لأن المقصود بقاء الشخص متمكناً من المشي متوكئاً على عود تحت اليد من جهة الرجل المقطوعة .

ودلت { ثُم } على الارتقاء في الوعيد بالثلب ، والمعروف أن الصلب أن يقتل المرء مشدوداً على خشبة ، وتقدم في قوله : { وما قتلوه وما صلبوه } في سورة النساء ( 157 ) ، وعلى هذا يكون توعّدهم بنوعين من العذاب . والوعيد موجّه إلى جماعتهم فعلم أنه جعلهم فريقين : فريق يعذب بالقطع من خلاف ، وفريق يعذب بالصلب والقتل ، فعلى هذا ليس المعنى على أنه يصلبهم بعد أن يقطعهم ، إذ لا فائدة في تقييد القطع بكونه من خلاف حينئذٍ ويحتمل أن يراد بالصلب : الصلب دون قتل ، فيكون أراد صلبهم بعد القطع ليجعلهم نكالاً ينذعر بهم الناس ، كيلا يُقدم أحد على عصيان أمره من بعد ، فتكون ( ثم ) دالة على الترتيب والمهلة ، ولعل المهلة قصد منها مدة كيّ واندمال موضع القطع ، وهذا هو المناسب لظاهر قوله : { أجمعين } المفيد أن الصلب ينالهم كلهم .