التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا} (38)

والإِيثار : تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما .

ويعدّى فعل الإِيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله ، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف ( على ) قال تعالى حكاية { لقد آثرك الله علينا } [ يوسف : 91 ] ، وقد يترك ذكر المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة .

وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم } [ الحشر : 9 ] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء .

والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها ، أي التي لا تُشاركُها فيها حظوظُ الآخرة ، فالكلام على حذف مضاف ، تقديره : نعيم الحياة .

ويفهم من فعل الإِيثار أن معه نبْذاً لنعيم الآخرة . ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس ، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة .

وملاك هذا الإِيثار هو الطغيان على أمر الله ، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكباراً عن أن يكونوا تبعاً للغير فتضيعَ سيادتهم .

وقد زاد هذا المفادَ بياناً قوله بعده : { وأما من خاف مقام ربه } الآية .

وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة ، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذُ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم ، وهو مقام كثير من عِباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون : { وابْتَعِ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] .