التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{أَيَحۡسَبُ أَن لَّن يَقۡدِرَ عَلَيۡهِ أَحَدٞ} (5)

فمعنى : { أيحسب أن لن يقدر عليه } [ البلد : 5 ] : أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقاً آخر ، فهو في طريقة القسم والمُقسم عليه بقوله تعالى : { لا أقسم بيوم القيامة } إلى قوله : { أيحسب الإنسان أَلَّن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [ القيامة : 1 4 ] . أي كما خلقناه أول مرة في نَصَب من أطوار الحياة كذلك نخلقه خلقاً ثانياً في كَبدٍ من العذاب في الآخرة لكفره .

وبذلك يظهر موقع إدماج قوله { في كبد } لأن المقصود التنظير بين الخلْقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى .

والظرفية من قوله : { في كبد } مستعملة مجازاً في الملازمة فكأنه مظروف في الكَبَد ، ونظيره قوله : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم } [ سبأ : 8 ، 9 ] الآية . فالمراد : عذاب الدنيا ، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاققِ المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية .

فالمعنى : أن الكَبَد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإِشراك وهو حين تقوُّم العقل وكماللِ الإدراك .

ومن الجائز أن يجعل قوله : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتباراً لطيفاً وهو شدة تلبّس الكَبد بالإِنسان المشرك حتى كأنه خُلِق في الكَبَد .

والمعنى : لقد خلقنا الكَبَد في الإنسان الكافر .

وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق .

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [ البلد : 4 ] .

والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخْطئة .

وضمير { أيَحْسِبُ } راجع إلى الإِنسان لا محالة ، ومن آثار الحيرة في معنى { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [ البلد : 4 ] أن بعض المفسرين جعل ضمير { أَيَحْسِبُ } راجعاً إلى بعض مما يعمه لفظ الإِنسان مثل أبي الأشد الجمحي ، وهو ضغث على إبّالة .