التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{لَآ أُقۡسِمُ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} (1)

مقدمة السورة:

سميت هذه السورة في ترجمتها عن صحيح البخاري { سورة لا أقسم } وسميت في المصاحف وكتب التفسير { سورة البلد } . وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة .

وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم : أنها مدنية . ولعل هذا قول من فسر قوله { وأنت حل بهذا البلد } أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل { وأنت حل } على معنى : وأنت الآن حل ، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح وعزي لابن عباس . وقد أشار في الكشاف إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق ، وفي رده بذلك مصادرة ، فالوجه أن يورد بأن في قوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } إلى قوله { فلا اقتحم العقبة } ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله } لقد خلقنا الإنسان في كبد } وإلا لخلت الضمائر عن معاد . وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها .

وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور ، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق .

وعدد آيها عشرون آية .

أغراضها

حوت من الأغراض التنويه بمكة . وبمقام النبي صلى الله عليه وسلم بها . وبركته فيها وعلى أهلها .

والتنويه بأسلاف النبي صلى الله عليه وسلم من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي .

والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك . وإنكارهم البعث . وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه ، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس ، ونعمة النطق ، ونعمة الفكر ، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه .

ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين .

ابتدئت بالقسم تشويقاً لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق .

و { لا أقسم } معناه : أقسم . وقد تقدم ذلك غير مرة منها ما في سورة الحاقة .

وتقدم القول في : هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به .

والإِشارة ب« هذا » مع بيانه بالبلد ، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة ، ومثله ما في قوله : { إنما أُمرت أن أعبد ربَّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] . وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة تمييز المقسم به أكْمَلَ تمييز لقصد التنويه به .

والبلد : جانب من متسع من أرض عامرةً كانتْ كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج :

بلْ بَلَدٍ ملءُ الفجاج قَتمُه

وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كنايةٌ عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله .