وقرأ ذكوان وابنه محمد{[11300]} : «ولو يقُول » بالياء وضم القاف ، وهذه القراءة معرضة بما صرحت به قراءة الجمهور ، ويبين التعريض قوله { علينا بعض الأقاويل } .
هذه الجملة عطف على جملة { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } [ الحاقة : 3839 ] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومَن جاء به وقال : إنه وحي من الله تعالى .
فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي ، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القَسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخَطابي .
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة ، وأنه عليم فلا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله ، أي لو لم يكن القرآن منزلاً من عندنا ومحمد ادعى أنه منزَّل مِنا ، لما أقررناه على ذلك ، ولعجّلنا بإهلاكه . فعدَم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله ، فإن { لو } تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها .
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان :
أحدهما : يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالاً جامعاً لإِبطال النوعين ، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما عَلِمْتُم شاعراً ولا كاهناً يزعم أن كلامَه من عند الله .
وثانيهما : إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم { افتراه } [ يونس : 38 ] ، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوّله على الله قال تعالى { أم يقولون تقوَّله بَلْ لا يؤمنون } [ الطور : 33 ] فبين لهم أنه لو افترَى على الله لما أقرّه على ذلك .
ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضاً آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينَهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم ، قال تعالى : { قال الذين لا يرجون لقاءَنا إيْتتِ بقرآننٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه } [ يونس : 15 ] . وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلاّ ذلك .
والتقول : نسبة قول لمن لم يقله ، وهو تفعُّل من القول صيغت هذه الصيغةَ الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولاً لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام ، ولكونه في معنى كذب عُدي ب ( على ) .
والمعنى : لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولاً لم نقله إلخ .
و { بعضَ } اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه ، وهو هنا منصوب على المفعول به ل { تقوَّل .
و{ الأقاويل } : جمع أقوال الذي هو جمع قول ، أي بعضاً من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة ، أي ولو نسب إلينا قليلاً من أقواللٍ كثيرة صادقةٍ يعني لو نسب إلينا شيئاً قليلاً من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين ، إلى آخره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو تقول علينا} محمد شيئا منه {بعض الأقاويل} يعني من تلقاء نفسه ما لم نقل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنا" محمد "بَعْضَ" الأقاوِيلِ الباطلة، وتكذب علينا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل} فهذا على ما تقدم من قوله: {إنه لقول رسول كريم} {وما هو بقول شاعر} [الآيتان 40 و 41] وعليه وقوع القسم، وهو موضعه، فكأنه يقول: إن الذي تلقاه من عنده رسول كريم، وما هو بقول، تلقاه من كاهن أو شاعر، ولا بقول تقوّله علينا {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} {لأخذنا منه باليمين} {ثم لقطعنا منه الوتين} الآيتان: 45 و46].
ويحتمل وجها آخر، وهو أن الذي يسمعون منه رسول كريم، وليس بشاعر ولا كاهن ولا متقول، لأنهم كانوا مرة ينسبونه إلى الكهانة ومرة إلى السحر ومرة أنه تقوّله على الله {ولو تقول علينا بعض الأقاويل}.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلَوْ تَقَوَّلَ}: تخرّص واختلق {عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ}.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ولو تَقوَّل علينا بَعْضَ الأقاويل} أي تكلّف علينا بعض الأكاذيب، حكاه عن كفار قريش أنهم قالوا ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولو تقول علينا بعض الأقاويل} يعني النبي صلى الله عليه وسلم لو قال ما لم يؤمر به وأتى بشيء من قبل نفسه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التقوّل: افتعال القول، لأن فيه تكلفاً من المفتعل، وسمى الأقوال المتقولة «أقاويل» تصغيراً بها وتحقيراً، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان قد بقي من الأقسام التي كانوا يتقولونها عليه الافتراء في الرسالة بمعنى أنه عثر على بعض كتب الله تعالى التي نزلت على من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فانتحلها من غير أن يوحى إليه، وكان الدليل على أن ذلك ليس كذلك أن العادة تحيل أن يطلع شخص من الناس على شيء لم يطلع أحد منهم و لا سيما إن كان ذلك الشخص قليل المخالطة للعلماء، فكيف إذا كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ كما كان صلى الله عليه وسلم، قال عاطفاً على ما تقديره: فلو لم يكن تنزيل رب العالمين عليه لم يعجزوا عنه: {ولو تقوّل} أي كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً {علينا} على ما لنا من صفات العظمة والجلال والبهاء والكمال والكبرياء {بعض الأقاويل} التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه. يجيء لتقرير الاحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره، وهو صدق الرسول [صلى الله عليه وسلم] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه. بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا. كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ:
(ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين)..
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] صادق فيما أبلغهم. وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات. ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق.
هذه هي القضية من الناحية التقريرية.. ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري. ظلالا فيها رهبة وفيها هول. كما أن فيها حركة وفيها حياة. ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات!
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين. وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته. ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه.. البشر أجمعين.. كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان. ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب. ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزلاً من عندنا ومحمد ادعى أنه منزَّل مِنا، لما أقررناه على ذلك، ولعجّلنا بإهلاكه. فعدَم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن {لو} تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها.
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان:
أحدهما: يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالاً جامعاً لإِبطال النوعين، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما عَلِمْتُم شاعراً ولا كاهناً يزعم أن كلامَه من عند الله.
وثانيهما: إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم {افتراه} [يونس: 38]، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوّله على الله قال تعالى {أم يقولون تقوَّله بَلْ لا يؤمنون} [الطور: 33] فبين لهم أنه لو افترَى على الله لما أقرّه على ذلك.
ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضاً آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينَهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى: {قال الذين لا يرجون لقاءَنا إيْتِ بقرآنٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه} [يونس: 15].
هذا مجال تهديد ووعيد لرسول الله، ولو كان القرآن من عند محمد صلى الله عليه وسلم لما ضمن القرآن هذا، ولكن لأنه وحي من عند الله فإن رسول الله لم يكتم حرفا واحدا من الوحي المنزل إليه من رب العالمين.
إنها الأمانة المطلقة والصدق الذي لا يخفي شيئا، ألم يكن جديرا بالقوم أن يفقهوا هذه الناحية من رسول الله، ويتفكروا في صدقه صلى الله عليه وسلم حين يخبرهم عن نفسه أشياء لم يعرفوها، وكان من المنتظر أن يخفيها عنهم؟ أليس في ذلك دليل قاطع على صدقه فيما يقول.