يقول تعالى : كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها ، ولا تبلغ{[22898]} كلامَك الصم الذين لا يسمعون ، وهم مع ذلك مُدْبِرُون عنك ، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق ، وردهم عن ضلالتهم ، بل ذلك إلى الله تعالى ، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، ويهدي مَنْ يشاء ، ويضل مَنْ يشاء ، وليس ذلك لأحد سواه ؛ ولهذا قال : { إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } أي : خاضعون مستجيبون مطيعون ، فأولئك هم الذين يستمعون {[22899]} الحق ويتبعونه ، وهذا حال المؤمنين ، والأول مَثَلُ الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ الأنعام : 36 ] .
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بهذه الآية : { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ، على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر{[22900]} ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر : يا رسول الله ، ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون " . وتأولته عائشة على أنه قال : " إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " {[22901]} .
وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة .
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا [ له ]{[22902]} ، عن ابن عباس مرفوعًا : " ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه ، حتى يرد عليه السلام " {[22903]} .
[ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له ، إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر ، فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده ، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم " .
وروي عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه ، رد عليه السلام .
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجَحْدَرِي قال : رأيت عاصمًا الجحدري في منامي بعد موته بسنتين ، فقلت : أليس قد متّ ؟ قال : بلى ، قلت : فأين أنت ؟ قال : أنا - والله - في روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني ، فنتلقى أخباركم . قال : قلت : أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال : هيهات ! قد بليت الأجسام ، وإنما تتلاقى الأرواح ، قال : قلت : فهل تعلمون بزيارتنا إياكم ؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس ، قال : قلت : فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال : لفضل يوم الجمعة وعظمته .
قال : وحدثنا محمد بن الحسين ، ثنا بكر بن محمد ، ثنا حسن القصاب قال : كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان ، فنقف على القبور فنسلم عليهم ، وندعو لهم ثم ننصرف ، فقلت ذات يوم : لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين ؟ قال : بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويومًا قبلها ويومًا بعدها . قال : ثنا محمد ، ثنا عبد العزيز بن أبان قال : ثنا سفيان الثوري قال : بلغني عن الضحاك أنه قال : من زار قبرًا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته ، فقيل له : وكيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة .
حدثنا خالد بن خِدَاش ، ثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي التَّيَّاح يقول : كان مُطَرَّف يغدو ، فإذا كان يوم الجمعة أدلج . قال : وسمعت أبا التياح يقول : بلغنا أنه كان ينزل بغوطة ، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه ، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسًا على قبره ، فقالوا : هذا مطرف يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما يقول فيه الطير . قلت : وما يقولون ؟ قال : يقولون سلام عليكم ؛ حدثني محمد بن الحسن ، ثنا يحيى بن أبي بكر ، ثنا الفضل بن الموفق ابن خال سفيان بن عيينة قال : لما مات أبي جزعت عليه جزعًا شديدًا ، فكنت آتي قبره في كل يوم ، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله ، ثم إني أتيته يومًا ، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت ، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج ، وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه ، عليه سِحْنَة الموتى ، قال : فكأني بكيت لما رأيته . قال : يا بني ، ما أبطأ بك عني ؟ قلت : وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال : ما جئت مرة إلا علمتها ، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك ، قال : فكنت آتيه بعد ذلك كثيرًا .
حدثني محمد ، حدثنا يحيى بن بَسْطام ، ثنا عثمان بن سُوَيْد الطُّفَاوي قال : وكانت أمه من العابدات ، وكان يقال لها : راهبة ، قال : لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت : يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي ، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني . قال : فماتت . فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور ، فرأيتها ذات يوم في منامي ، فقلت لها : يا أمي ، كيف أنت ؟ قالت : أي : بني ، إن للموت لكربة شديدة ، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان ، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور ، فقلت لها : ألك حاجة ؟ قالت : نعم ، قلت : وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا ، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك ، يقال لي : يا راهبة ، هذا ابنك ، قد أقبل ، فأسر ويسر بذلك مَنْ حولي من الأموات .
حدثني محمد ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان ، حدثنا بشر بن منصور قال : لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان ، فيشهد الصلاة على الجنائز ، فإذا أمسى وقف على المقابر فقال : آنس الله وحشتكم ، ورحم غربتكم ، وتجاوز عن مسيئكم ، وقبل حسناتكم ، لا يزيد على هؤلاء الكلمات ، قال : فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو ، قال : فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني ، فقلت : ما أنتم وما حاجتكم ؟ قالوا : نحن أهل المقابر ، قلت : ما حاجتكم ؟ قالوا : إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك ، قلت : وما هي ؟ قالوا : الدعوات التي كنت تدعو بها ، قال : قلت فإني أعود لذلك ، قال : فما تركتها بعد .
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي من أقاربه وإخوانه . قال عبد الله بن المبارك : حدثني ثور بن يزيد ، عن إبراهيم ، عن أيوب قال : تعرض أعمال الأحياء على الموتى ، فإذا رأوا حسنًا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءًا قالوا : اللهم راجع به .
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال : ثنا محمد أخي قال : دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو على فلسطين فقال : عظني ، قال : بِمَ أعظك ، أصلحك الله ؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى ، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك ، فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته . قال ابن أبي الدنيا : وحدثني محمد بن الحسين ، ثنا خالد بن عمرو الأموي ، ثنا صدقة بن سليمان الجعفري قال : كانت لي شِرَّة سَمِجَة ، فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت ، ثم زللت أيما زلة ، فرأيت أبي في المنام ، فقال : أي بني ، ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علينا ، فنشبهها بأعمال الصالحين ، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدًا ، فلا تخزني فِيمَنْ حولي من الأموات ، قال : فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر ، وكان جارًا لي بالكوفة : أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور ، يا مصلح الصالحين ، ويا هادي المضلين ، ويا أرحم الراحمين .
وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة . وكان بعض الأنصار من أقارب عبد الله بن رواحة يقول : اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة ، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله .
وقد شرع السلام على الموتى ، والسلام على مَنْ لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا : " سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد ، والله أعلم ]{[22904]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أنت} النبي صلى الله عليه وسلم {بهاد العمي} للإيمان يقول: عموا عن الإيمان.
{عن ضلالتهم} كفرهم الذي هم عليه.
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمن يسمع الإيمان، فقال سبحانه: {إن تسمع} بالإيمان {إلا من يؤمن بآياتنا} يصدق بالقرآن أنه جاء من الله عز وجل.
{فهم مسلمون} فهم مخلصون بالتوحيد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما أنْتَ بِهادِ العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ" يقول تعالى ذكره: وما أنت يا محمد بمسدّد من أعماه الله عن الاستقامة، وَمَحجة الحقّ، فلم يوفقه لإصابة الرشد، فصارِفه عن ضلالته التي هو عليها، وركوبه الجائر من الطرق، إلى سبيل الرشاد، يقول: ليس ذلك بيدك ولا إليك، ولا يقدر على ذلك أحد غيري، لأني القادر على كل شيء. وقيل: بهادي العمي عن ضلالتهم، ولم يقل: من ضلالتهم. لأن معنى الكلام ما وَصَفْت، من أنه: وما أنت بصارفهم عنه، فحمل على المعنى. ولو قيل: من ضلالتهم كان صوابا. وكان معناه: ما أنت بمانعهم من ضلالتهم.
وقوله: "إنْ تُسْمِعُ إلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بآياتِنا "يقول تعالى ذكره لنبيه: ما تسمع السماع الذي ينتفع به سامعه فيعقله، إلاّ من يؤمن بآياتنا، لأن الذي يؤمن بآياتنا إذا سمع كتاب الله تدبّره وفهمه وعقَله، وعمل بما فيه، وانتهى إلى حدود الله، الذي حدّ فيه، فهو الذي يسمع السماع النافع.
وقوله: "فَهُمْ مُسْلِمُونَ" يقول: فهم خاضعون لله بطاعته، متذللون لمواعظ كتابه.
{وما أنت بهادي العمى} أي ليس شغلك هداية العميان، فقوله: {إنك لا تسمع الموتى} نفى ذلك عنه.
{إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حيا سميعا، وهو كذلك، لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة، ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه صلى الله عليه وسلم يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال: {وما أنت بهاد العمي} أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى، فالتقدير: وما أنت تجدد هداية العمي.
{عن ضلالتهم} إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال -بما أشار إليه التأنيث، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً، وفي قراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعلية المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها، فمثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم: خلو بين هذا الرجل وبين الناس، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم، والثالث المنافقون، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ- والله الموفق.
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله: {إن} أي ما {تسمع إلا من يؤمن} أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً {بآياتنا} أي فيه قابلية ذلك دائماً، فهو يذعن للآيات المسموعة، و يعتبر بالآيات المصنوعة، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال: {فهم} أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم {مسلمون} أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 52]
وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم؛ وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث.. عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم؛ ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها، وانطماس بصيرتهم وعماها.
(فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون).
وهو يصورهم موتى لا حياة فيهم، صما لا سمع لهم، عميا لا يهتدون إلى طريق.. والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه. إنما هي حياة حيوانية، بل أضل وأقل، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه! والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات! والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى ولو كانت له عينان كالحيوان!
(إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون)..
وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة، لأن قلوبهم حية، وبصائرهم مفتوحة، وإدراكهم سليم. فهم يسمعون فيسلمون. ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب.
والدلالة على الطريق والهداية إليه لا تتأتى مع العمي، خصوصا إذا أصر الأعمى على عماه، يعني: يأنف أن يستعين بالمبصر، ولو استعان بالناس من حوله لوجدهم خدما له ولصار هو مبصرا ببصرهم.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون: وهؤلاء هم أصفياء القلوب والفطرة، الذين يلتفتون إلى كون الله، فيستدلون بالخلق على الخالق، وبالكون على المكون سبحانه.
{يؤمن بآياتنا...: ينظر فيها ويتأملها، ويقف على ما في الكون من عجائب الخلق الدالة على قدرة الخالق، فإذا ما جاءه رسول من عند الله أقبل عليه وآمن به؛ لذلك قال بعدها: فهم مسلمون.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الشرط الأوّل لإدراك الحقيقة أن يكون للإنسان قلب مهيأ ومستعد، وعين باصرة وأذن سميعة، وإلاّ فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياء وتلوا جميع الآيات الإلهية على من لا يدرك الحقيقة لما اقترفه من الذنوب واللجاجة والعناد، فإنها لن تؤثر فيه!. وإنّما أشار القرآن إلى هاتين الحاستين الظاهرتين، بالإضافة إلى الإدراك الباطني فحسب، فلأجل أن أكثر معلومات الإنسان، إمّا أن يكون عن طريق هاتين الحاستين [العين والأذن]، أو عن طريق الوجدان والتحليل العقلي!
والطريف هنا أنّ المراحل الثلاث الواردة في الآيات الآنفة الذكر هي ثلاث مراحل مختلفة من الانحراف وعدم درك الحقيقة، وهي تبدأ من شديدها وتنتهي بالخفيف منها!
فالمرحلة الأولى: هي موت القلوب المعبر عنها ب «الموتى» وهذه المرحلة ليس للحقيقة أي طريق للنفوذ فيها.
والمرحلة الثّانية: مرحلة «الصمم» وعدم السمع، وبالطبع فإنّ هذه الطائفة ليست كالموتى، فمن الممكن أحياناً أن يتمّ تفهيمهم بالإشارة أو العلامة، إلاّ أنّنا نعرف أن كثيراً من الحقائق لا يمكن بيانها وإيصالها إلى الذهن بالإشارة! وخاصة حين يدير الطرف الآخر ظهره ويكون بعيداً.
المرحلة الثّالثة: (العمى)، وبالطبع فإن الحياة مع العمي أسهل بمراتب من الحياة مع «الصُم» أو الحياة مع «الموتى»، فعلى الأقل لديهم آذان سميعة، ويمكن إيصال كثير من المفاهيم إليهم... لكن أين السمع في إدراك الحقائق من البصر؟!...