معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (9)

قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم } لا تشغلكم { أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } قال المفسرون يعني الصلوات الخمس ، نظيره قوله : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله }( النور- 37 ) { ومن يفعل ذلك } أي من شغله ماله وولده عن ذكر الله . { فأولئك هم الخاسرون . }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (9)

لهؤلاء المؤمنين الذين أوقفهم الله في صفه مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وجعل عزتهم من عزته يوجه النداء الأخير في السورة ، ليرتفعوا إلى هذا المكان الكريم ، ويبرأوا من كل صفة تشبه صفات المنافقين ، ويختاروا ذلك المقام الأسنى على الأموال والأولاد ، فلا يدعوها تلهيهم عن بلوغ ذلك المقام الوضيء :

يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله . ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون . وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ، فيقول : رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها ، والله خبير بما تعملون . .

والأموال والأولاد ملهاة ومشغلة إذا لم يستيقظ القلب ، ويدرك غاية وجوده ، ويشعر أن له هدفا أعلى يليق بالمخلوق الذي نفخ الله فيه من روحه ، فأودع روحه الشوق إلى تحقيق بعض صفاته الإلهية في حدود طاقته البشرية . وقد منحه الأموال والأولاد ليقوم بالخلافة في الأرض لا لتلهيه عن ذكر الله والاتصال بالمصدر الذي تلقى منه ما هو به إنسان . ومن يغفل عن الاتصال بذلك المصدر ، ويلهه عن ذكر الله ليتم له هذا الاتصال ( فأولئك هم الخاسرون ) . . وأول ما يخسرونه هو هذه السمة . سمة الإنسان . فهي موقوفة على الاتصال بالمصدر الذي صار به الإنسان إنسانا . ومن يخسر نفسه فقد خسر كل شيء . مهما يملك من مال ومن أولاد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (9)

انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم ، إلى الإِقبال على خطاب المؤمنين بنهيهم عما شأنُه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى ، ثم الأمر بالإِنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم ، لئلا يستهويهم قول المنافقين { لا تنفقوا على من عند رسول الله } [ المنافقين : 7 ] والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يُدْرى وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده { وأنفقوا من ما رزقناكم } [ المنافقون : 10 ] ، فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأموال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق .

ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي .

وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالاً يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد . ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها ، تشغل عن ذكره أيضاً بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها .

وأما ذِكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما .

وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإِلهاء عن الذكر ، إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها ، وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله : { ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } . وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله ، فنُزّل سبب الإِلهاء منزلة اللاَّهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا .

و { لا } في قوله : { ولا أولادكم } نافية عاطفة { أولادكم } على { أموالكم } ، والمعطوف عليه مدخول { لا } الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف { لا } الناهية أصلها { لا } النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملاً على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال .

و { ذكر الله } مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي . فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوةِ القرآن ، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحْضار امتثاله قال عمر بن الخطاب : « أفضل من ذكر الله باللسان ذِكر الله عند أمره ونهيه » .

وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يُلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب .

وقوله : { ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } ، دليل على قول علماء أصول الفقه « النهيُ اقتضاءُ كفَ عن فعل » .

والإِشارة ب { ذلك } إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد ، أي ومن يُلْهِ عن ذكر الله ، أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله ، أي مراعاة أوامره ونواهيه .

ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه .

وأفاد ضمير الفصل في قوله : { فأولئك هم الخاسرون } قصرَ صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نُهوا عنه ، وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسراناً بالنسبة إلى خسرانهم .

والإِشارة إليهم ب { أولئك } للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإِشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإِشارة ، أعني اللهو عن ذكر الله .