معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ} (57)

قوله تعالى : { ما أريد منهم من رزق } أي : أن يرزقوا أحداً من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم ، { وما أريد أن يطعمون } أي : أن يطعموا أحداً من خلقي ، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه ، لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه . كما جاء في الحديث " يقول الله : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني ، أي : فلم تطعم عبدي .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ} (57)

والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه . بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهم الرزق ومن شح النفس . فالرزق في ذاته مكفول . تكفل به الله تعالى لعباده . وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه . حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه ، والقيام بحق المحرومين فيه :

( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .

وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق . بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة ، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة . ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد ، طليقا من التعلق بنتائج الجهد . . وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم .

وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها ، فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن . ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم .

وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق . أفق العبادة . أو أفق العبودية . ويستقر عليه ، فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة . ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا . فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم . ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ

الغايات ، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات ، تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء . أما الغايات فموكولة لله ، يأتي بها وفق قدره الذي يريده . ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله ، وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله .

ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير ، وطمأنينة النفس ، وصلاح البال ، في جميع الأحوال . سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها . تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها . فهو قد أنهى عمله ، وضمن جزاءه ، عند تحقق معنى العبادة . واستراح . وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته . . وقد علم هو أنه عبد ، فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد . وعلم أن الله رب ، فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب . واستقرت مشاعره عند هذا الحد ، ورضي الله عنه ، ورضي هو عن الله .

وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة ، التي تقررها آية واحدة قصيرة : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . . وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقا في الضمير . . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ} (57)

وقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } قال {[27462]} الإمام أحمد :

حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد{[27463]} ، عن عبد الله بن مسعود قال : أقرأني رسول الله {[27464]} صلى الله عليه وسلم : " إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين " .

ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[27465]} .

ومعنى الآية : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، فهو خالقهم ورازقهم .

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نَشِيط - عن أبيه ، عن أبي خالد - هو الوالبي - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : " يا ابن آدم ، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى ، وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك " .

ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث عمران بن زائدة ، وقال الترمذي : حسن غريب{[27466]} .

وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سلام أبي شُرحْبِيل ، سمعت حَبَّة وسواء ابني خالد يقولان : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء - وقال أبو معاوية : يصلح شيئا - فأعناه عليه ، فلما فرغ دعا لنا وقال : " لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يعطيه الله ويرزقه " {[27467]} . و [ قد ورد ]{[27468]} في بعض الكتب الإلهية : " يقول الله تعالى : ابن آدم ، خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني ؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .


[27462]:- (3) في م: "وقال".
[27463]:- (4) في أ: "زيد".
[27464]:- (5) في م: "النبي".
[27465]:- (6) المسند (1/394) وسنن أبي داود برقم (3989) وسنن الترمذي برقم (2940) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11527).
[27466]:- (1) المسند (2/358) وسنن الترمذي برقم (2466) وسنن ابن ماجه برقم (4107).
[27467]:- (2) المسند (3/469).
[27468]:- (3) زيادة من م، أ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ} (57)

جملة { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } تقرير لمعنى { إلا ليعبدون } بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئاً يصنعونه أو يتخذونه ، فإن المعروف في العرف أن من يتخذ شيئاً إنما يتخذه لنفع نفسه ، وليست الجملة لإِفادة الجانب المقصور دُونَه بصيغة القصر لأن صيغة القصر لا تحتاج إلى ذكر الضد . ولا يَحسن ذكر الضد في الكلام البليغ .

فقوله : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } كناية عن عدم الاحتياج إليهم لأن أشد الحاجات في العرف حاجة الناس إلى الطعام واللباس والسكن وإنما تحصل بالرزق وهو المال ، فلذلك ابتدىء به ثم عطف عليه الإِطعام ، أي إعطاء الطعام لأنه أشد ما يحتاج إليه البشر ، وقد لا يَجده صاحب المال إذا قحط الناس فيحتاج إلى من يسلفه الطعامَ أو يُطعمه إياه ، وفي هذا تعريض بأهل الشرك إذ يُهدون إلى الأصنام الأموال والطعام تتلقاه منهم سدنة الأصنام .

والرزق هنا : المال كقوله تعالى : { فابتغوا عند الله الرزق } [ العنكبوت : 17 ] وقوله : { اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] وقوله : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللَّه } [ الطلاق : 7 ] ، ويطلق الرزق على الطعام كقوله تعالى : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] ويمنع من إرادته هنا عطف { وما أريد أن يطعمون } .