في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ} (57)

والقرآن يغذي هذا الإحساس ويقويه . بإطلاق مشاعر الإنسان من الانشغال بهم الرزق ومن شح النفس . فالرزق في ذاته مكفول . تكفل به الله تعالى لعباده . وهو لا يطلب إليهم بطبيعة الحال أن يطعموه - سبحانه - أو يرزقوه . حين يكلفهم إنفاق هذا المال لمحتاجيه ، والقيام بحق المحرومين فيه :

( ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .

وإذن لا يكون حافز المؤمن للعمل وبذل الجهد في الخلافة هو الحرص على تحصيل الرزق . بل يكون الحافز هو تحقيق معنى العبادة ، الذي يتحقق ببذل أقصى الجهد والطاقة . ومن ثم يصبح قلب الإنسان معلقا بتحقيق معنى العبادة في الجهد ، طليقا من التعلق بنتائج الجهد . . وهي مشاعر كريمة لا تنشأ إلا في ظل هذا التصوير الكريم .

وإذا كانت البشرية لا تدرك هذه المشاعر ولا تتذوقها ، فذلك لأنها لم تعش - كما عاش جيل المسلمين الأول - في ظلال هذا القرآن . ولم تستمد قواعد حياتها من ذلك الدستور العظيم .

وحين يرتفع الإنسان إلى هذا الأفق . أفق العبادة . أو أفق العبودية . ويستقر عليه ، فإن نفسه تأنف حتما من اتخاذ وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة . ولو كانت هذه الغاية هي نصر دعوة الله وجعل كلمته هي العليا . فالوسيلة الخسيسة من جهة تحطم معنى العبادة النظيف الكريم . ومن جهة أخرى فهو لا يعني نفسه ببلوغ

الغايات ، إنما يعني نفسه بأداء الواجبات ، تحقيقا لمعنى العبادة في الأداء . أما الغايات فموكولة لله ، يأتي بها وفق قدره الذي يريده . ولا داعي لاعتساف الوسائل والطرق للوصول إلى غاية أمرها إلى الله ، وليست داخلة في حساب المؤمن العابد لله .

ثم يستمتع العبد العابد براحة الضمير ، وطمأنينة النفس ، وصلاح البال ، في جميع الأحوال . سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها . تحققت كما قدرها أم على عكس ما قدرها . فهو قد أنهى عمله ، وضمن جزاءه ، عند تحقق معنى العبادة . واستراح . وما يقع بعد ذلك خارج عن حدود وظيفته . . وقد علم هو أنه عبد ، فلم يعد يتجاوز بمشاعره ولا بمطالبه حدود العبد . وعلم أن الله رب ، فلم يعد يتقحم فيما هو من شؤون الرب . واستقرت مشاعره عند هذا الحد ، ورضي الله عنه ، ورضي هو عن الله .

وهكذا تتجلى جوانب من تلك الحقيقة الضخمة الهائلة ، التي تقررها آية واحدة قصيرة : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . . وهي حقيقة كفيلة بأن تغير وجه الحياة كلها عندما تستقر حقا في الضمير . . .