قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } . هذا الجار{[53006]} متعلق «بخَلَقْتُ » .
واختلف في الجن والإنس ، قيل : المراد بهم العموم والمعنى إلا لآمرهم بالعبادة وليقروا بها ، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب ، ويؤيده : { وَمَا أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً }{[53007]} [ التوبة : 31 ] أو يكون المعنى : ليطيعوني وينقادوا لقضائي{[53008]} ، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر كرهاً ، فكل مخلوق من الجِنّ والإنس خاضع لقضاء الله متذلّل لمشيئته{[53009]} ، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه . أو يكون المعنى : إلا معدين للعبادة ، ثم منهم من يتأتى منه ذلك ، ومنهم من لا ، كقولك : هَذَا القَلَمُ بَرَيْتُهُ لِلْكِتَابَةِ ، ثم قد يكتب به ، وقد لا يُكْتَب وقيل : المراد به الخصوص ، أي ما خلقت السعداءَ من الجنِّ والإنس إلا لعبادتي ، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي . قاله زيد بن أسلم . قال : هو ما جُبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، ويؤيده قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] .
وقال مجاهدٌ : معناه إِلاَّ ليعْرفُون . قال البغوي : وهذا أحسن ؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، بدليل قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] ، وقيل : إلا ليعبدون أي إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيُوَحِّده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشّدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ العنكبوت : 65 ] وقيل : المراد وما خلقت الجِنَّ والإِنْسَ المؤمنين . وقيل : الطائعين{[53010]} . قال شهاب الدين : والأول أحسنُ .
في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق ، فلما قال تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } [ الذاريات : 54 ] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس ، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية ، وقيل : إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم ، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة .
فإِنْ قِيلَ : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين ، قال تعالى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] وقال : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [ الأعراف : 206 ] .
أحدها : أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ ، من ترك ما خُلِقُوا له . وهذا مختص بالجِنِّ والإنس ؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم{[53011]} - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس ، فلما قال : «وَذَكِّرْ » بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة ، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن .
الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون : إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين ، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلفى } [ الزمر : 3 ] فقال تعالى : { مَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم ، فذكر المتنازع فيه .
الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة ، لأن أصل الجن من الاستتار ، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم{[53012]} .
قوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي ، ولا أن يرزقوا أنفسهم { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } أي يطعموا أحداً من خلقي . وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ ، قال عليه الصلاة والسلام{[53013]} : «اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي » ، أي لم تطعم عبدي{[53014]} .
استدل المعتزلة بقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } على أن أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] وقوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم ، وفرضت عليهم العبادة .
ومنها : قوله تعالى : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] و[ الرعد : 16 ] .
ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى : { يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ } [ النحل : 93 ] وأمثاله .
ومنها : قوله تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وقوله : { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] و{ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } .
وقوله تعالى : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي .
فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين{[53015]} مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ ؟ ! .
فالجواب : أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب{[53016]} له ، فيطلب منه الرزق ، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه ، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا . وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى .
فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم ؟ ! .
فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله : «من رزق » وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى ، فكأنه قال : ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ .
فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه ، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم ، بل يشتريه للتجارة !
فالجواب : أن عموم قوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } يتناول ذلك .
قوله : «أَنْ يُطْعِمُونِ » قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير . وقيل : المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن{[53017]} عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم ، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك .
قوله تعالى : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } يعني لجميع خلقه ، وهذا تقرير لعدم طلب الرزق ، وقوله : «ذو القُوَّةِ » تقرير لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً ، ومن يطلب عملاً يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه يقول : ما أريدُ منهم من رزق فإني أنا الرزّاق ، ولا العمل فإِني قَوِيّ{[53018]} .
وروي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قرأ : إِنِّي أنا الرزَّاق{[53019]} ، وقرأ ابن مُحَيْصِن : الرَّازق{[53020]} ، كما تقدم في قراءته : { وَفي السَّمَاء رازِقُكمْ } .
قوله : «المَتِينُ » العامة على رفعه ، وفيه أوجه :
إما النعت للرزَّاق{[53021]} ، وإما النعت لِذُو{[53022]} ، وإما النعت لاسم «إِنَّ » على الموضع{[53023]} . وهو مذهب الجَرْمِيِّ والفراء{[53024]} ، وغيرهما . وإما خبر بعد خبر ، وإما خبر مبتدأ مضمر{[53025]} . وعلى كل تقدير فهو تأكيد ، لأن «ذو القوة » يفيد فائدتَهُ .
وقرأ يَحْيَى بْنُ وَثَّاب والأعمشُ المَتِينِ - بالجر{[53026]} - فقيل : صفة «القوة » ، وإنما ذكر وصفها لكوْن تأنيثِها غيرَ حَقِيقيٍّ . وقيل : لأنها في معنى الأيْدِ{[53027]} .
وقال ابن جنِّي : هو خفض على الجوار كقولهم : «هَذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ » يعني أنه صفة للمرفوع ، وإنما جر لما{[53028]} جاور مجروراً . وهذا مرجوحٌ لإمكان غيره ، والجوار لا يصار إليه إلا عند الحاجة .
قال تعالى : «ما أريد » ولم يقل : إني رازق بل قال على الحكاية عن الغائب إن الله هو الرزّاق فما الحكمة فيه ؟ .
قال ابن الخطيب : نقول : قد رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ : إنِّي أنا الرَّزَّاق . وأما على القراءة المشهورة فالمعنى : قُلْ يا محمد إن الله هو الرزَّاق ، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، أو يكون قل مضمراً عند قوله : «مَا أُرِيدُ » أي قل يا محمد : ما أريد منهم من رزق فيكون بمعنى قوله : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ ص : 86 ] ويكون على هذا قوله تعالى : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } ، ولم يقل : القوي ، بل قال : ذُو القوة ، لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق ، وعدم الاستعانة بالغير لكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً ، فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وعبده ويسترزق والملك يرزق الجند ، ويسترزق ، فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزِقَ منه يكثر الرزق ، لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل إلا بالمبالغة في وصف الرازق{[53029]} ، فقال : الرزَّاق ، وأما ما يُغني عن الاستعانة بالغير ، فهو دون ذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير ، فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به استعانة قوية بل استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك ، ولما قال : { وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } كفاه بيان نفس القوة فقال : «ذُو القوة » ، لأن قولنا : ذُو القوة في إفادة معنى القوي دون إفادة القَوِيّ ، لأن ذلك لا يقال في الوصف اللازم البين ، يقال في الآدمي : ذُو مَال ومتمول ، وذو جَمال ، وجميل ، وذو خلق حسن إلى غير ذلك مما ( لا ){[53030]} يلزم لزوماً بيناً .
ولا يقال في الثلاثة : ذات فردية ، ولا في الأربعة : ذات زوجية ، وهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية فلم يسمع ذو الوجود ولا ذو الحياة ولا ذو العِلم ، ويقال في الإنسان : ذو علم ، وذو حياة لأنها فيه عرض لا لازم بين .
وفي صفات الفعل يقال : الله تعالى ذُو الفضل كثيراً ( وذو الخلق{[53031]} قليلاً ) ؛ لأن «ذا كذا » بمعنى صاحب والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين . ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العِلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقويّ ، ويؤيده أيضاً قوله تعالى : { فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ } [ غافر : 22 ] وقوله : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ القوي } [ الشورى : 19 ] وقال : { لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] لأن هذه الصور كان المراد بها بيان القيام بالأفعال العظيمة وههنا المراد عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ( ما ) {[53032]} . ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة ، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عَنْه .
قوله : «المَتِينُ » ، لأن ذا القوة كما تقدم لا يدل إلا على أن له قوةً ما ، فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى ، فإن معنى مَتْن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزّة مع القوي حيث قرن العزة مع القوة في قوله : «قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقوله : «القَوِيّ العَزِيزُ » .