{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى على الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين . يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم } قرأ ابن عامر " تنجيكم " بالتشديد ، والآخرون بالتخفيف ، { من عذاب أليم } نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه ، وجعل ذلك بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله ونيل جنته والنجاة من النار .
وفي ظلال قصة العقيدة ، وفي مواجهة وعد الله بالتمكين لهذا الدين الأخير ، يهتف القرآن الكريم بالذين آمنوا . . من كان يواجه ذلك الخطاب ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم الدين . . يهتف بهم إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة . تجارة الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله :
( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ، ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها : نصر من الله وفتح قريب ، وبشر المؤمنين ) . .
وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل ، واستفهام وجواب ، وتقديم وتأخير ، صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية .
يبدأ بالنداء باسم الإيمان : يا أيها الذين آمنوا . . يليه الاستفهام الموحي . فالله - سبحانه - هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب : ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ? ) . .
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة ? وهنا تنتهي هذه الآية ، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق .
وقرأ جمهور القراء والناس : «تُنْجِيكُم » بتخفيف النون وكسر الجيم دون شد ، وقرأ ابن عامر وحده{[11079]} والحسن والأعرج وابن أبي إسحاق : «تُنَجِّيكم » بفتح النون وشد الجيم .
هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله : { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } إلى قوله : { كأنهم بنيان مرصوص } [ الصف : 2 4 ] . فبعد أن ضربت لهم الأمثال ، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال ، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله : { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 2 ] ، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة .
والظاهر أن الضمير المستتر في { أدلكم } عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين . ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي { وبشر المؤمنين } [ الصف : 13 ] .
والاستفهام مستعمل في العَرض مجازاً لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال : هل لك في كذا ؟ أو هل لك إلى كذا ؟
والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض ، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة . وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في « المفتاح » ، وهي غير منحصرة فيما ذكره .
وجيء بفعل { أدلكم } لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة .
وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في سورة [ البقرة : 16 ] .
ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم ، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لما نزلت هذه الآية: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} [الصف:3]، قال بعضهم: يا رسول الله، فما لنا من الأجر إذا جاهدنا في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} يعني وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلّكُمْ على تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ} موجع، وذلك عذاب جهنم، ثم بين لنا جلّ ثناؤه ما تلك التجارة التي تنجينا من العذاب الأليم، فقال:"تُؤمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ "محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: وكيف قيل: "تُؤمنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ"، وقد قيل لهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} بوصفهم بالإيمان؟ فإن الجواب في ذلك نظير جوابنا في قوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بالله} وقد مضى البيان عن ذلك في موضعه بما أغنى عن إعادته.
وقوله: {وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّهِ بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ} يقول تعالى ذكره: وتجاهدون في دين الله، وطريقه الذي شرعه لكم بأموالكم وأنفسكم. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} يقول: إيمانكم بالله ورسوله، وجهادكم في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم "خَيْرٌ لَكُمْ" من تضييع ذلك والتفريط "إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" مضارّ الأشياء ومنافعها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... أمرهم بالإيمان بعد ما آمنوا بمعنى الثبات عليه أو الزيادة وبحق التجدد لأن الإيمان في حادث الأوقات له أسماء ثلاثة: الزيادة والثبات والتجدد، وذلك أن الله تعالى ذكر هذا النوع في كتابه مرة باسم الزيادة حين قال: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} [التوبة: 124] ومرة باسم الثبات بقوله: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا} [إبراهيم: 28] ومرة باسم الإيمان بقوله: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله} [النساء: 136].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى مخاطبا للمؤمنين (يا أيها الذين آمنوا) بالله واعترفوا بتوحيده وإخلاص عبادته وصدقوا رسوله (هل أدلكم على تجارة) صورته صورة العرض والمراد به الأمر. والتجارة: طلب الربح في شراء المتاع، وقيل لطلب الثواب بعمل الطاعة تجارة تشبهها بذلك، لما بينهما من المقاربة (تنجيكم) أي تخلصكم (من عذاب أليم) أي مؤلم، وهو عذاب النار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
سمَّى الإيمانَ والجهادَ تجارةً لِمَا في التجارة من الرِّبح والخسران ونوعٍ تَكسُّب من التاجر -وكذلك: في الإيمان والجهاد رِبْحُ الجنَّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الأمرُ بالضِّدِّ...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والتجارة أن تبذل شيئا وتأخذ شيئا، فكأنه جعل بذل النفس والمال وأخذ الثواب تجارة، وهو على طريق المجاز...
{على تجارة} هي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى، كما قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} دل عليه {تؤمنون بالله ورسوله} والتجارة عبارة عن معاوضة الشيء بالشيء، وكما أن التجارة تنجي التاجر من محنة الفقر، ورحمة الصير على ما هو من لوازمه، فكذلك هذه التجارة وهي التصديق بالجنان والإقرار باللسان، كما قيل في تعريف الإيمان فلهذا قال: بلفظ التجارة، وكما أن التجارة في الربح والخسران، فكذلك في هذا، فإن من آمن وعمل صالحا فله الأجر، والربح الوافر، واليسار المبين، ومن أعرض عن العمل الصالح فله التحسر والخسران المبين، وقوله تعالى: {تنجيكم من عذاب أليم} قرئ مخففا ومثقلا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي قالوا في إقرارهم بالإيمان ما عليهم أن يفعلوا بمقتضاه {هل أدلكم} وأنا المحيط علماً وقدرة، فهي إيجاب في المعنى ذكر بلفظ الاستفهام تشويقاً ليكون أوقع في النفس فتكون له أشد تقبلاً، والآية أيضاً نتيجة ما مضى باعتبار آخر لأنه لما وبخ على انحلال العزائم واخبر بما يجب من القتال، وبكت على أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخالفة، وأخبر أن من خالفه لا يضر إلا نفسه، كان موضع الاستباق في طاعته فرتب عليه الاشتياق إلى ذكر ثمرته فذكرها، ولما كان فعل حاطب رضي الله عنه لأجل أن لا نجاح أهله الذين كانوا بمكة في أنفسهم ولا في شيء من مالهم، وكان هذا في معنى التجارة قال: {على تجارة} وقراءة ابن عامر {تنجيكم} بالتشديد أنسب لهذا المقام من قراءة الجماعة بالتخفيف، وقراءة الجماعة أنسب لمقصود حاطب رضي الله عنه {من عذاب أليم} بالإجاحة في النفس أو المال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين).. وصيغة التعبير بما فيها من فصل ووصل، واستفهام وجواب، وتقديم وتأخير، صيغة ظاهر فيها القصد إلى إقرار هذا الهتاف في القلوب بكل وسائل التأثير التعبيرية. يبدأ بالنداء باسم الإيمان: يا أيها الذين آمنوا.. يليه الاستفهام الموحي. فالله -سبحانه- هو الذي يسألهم ويشوقهم إلى الجواب: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟)...
ومن ذا الذي لا يشتاق لأن يدله الله على هذه التجارة؟ وهنا تنتهي هذه الآية، وتنفصل الجملتان للتشويق بانتظار الجواب المرموق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة. والاستفهام مستعمل في العَرض مجازاً لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال: هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟ والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة. وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في « المفتاح»، وهي غير منحصرة فيما ذكره. وجيء بفعل {أدلكم} لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة.وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} في سورة [البقرة: 16]. ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
تعليق على الآية: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم}، والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين ورد على زعم المستشرقين بأن الغنائم كانت هدف الجهاد:
عبارة الآيات واضحة، ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء الحث على الجهاد، وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم، ويسوغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا. وأسلوب الحث والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين اللذين وجه إليهم الخطاب: أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر؛ لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه، وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسره الله لهم. وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة. وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح...