{ ثم إن علينا بيانه } علينا أن نبينه بلسانك . قال : وكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل ، ورواه محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة بهذا الإسناد وقال : " كان يحرك شفتيه إذا نزل عليه ، يخشى أن ينفلت منه ، فقيل له : { لا تحرك به لسانك } { إن علينا جمعه } أن نجمعه في صدرك { وقرآنه } أن تقرأه " .
ثم تجيء الآيات الأربع الخاصة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في شأن الوحي وتلقي هذا القرآن :
( لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ) . .
وبالإضافة إلى ما قلناه في مقدمة السورة عن هذه الآيات ، فإن الإيحاء الذي تتركه في النفس هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن : وحيا وحفظا وجمعا وبيانا ؛ وإسناده إليه سبحانه وتعالى بكليته . ليس للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من أمره إلا حمله وتبليغه . ثم لهفة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه ؛ وأخذه مأخذ الجد الخالص ، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة ، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية وكلمة كلمة يستوثق منها أن شيئا لم يفته ، ويتثبت من حفظه له فيما بعد !
وتسجيل هذا الحادث في القرآن المتلو له قيمته في تعميق هذه الإيحاءات التي ذكرناها هنا وفي مقدمة السورة بهذا الخصوص .
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي : بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي عَوَانة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيه - قال : فقال لي ابن عباس : أنا أحرك شفتي{[29547]} كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه . وقال لي سيعد : وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه - فأنزل الله عز وجل { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال : جمعه في صدرك ، ثم تقرأه ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فاستمع له وأنصت ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه . {[29548]}
وقد رواه البخاري ومسلم ، من غير وجه ، عن موسى بن أبي عائشة ، به{[29549]} ولفظ البخاري : فكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل{[29550]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى التيمي ، حدثنا موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة ، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه ، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره ، فأنزل الله : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }
وهكذا قال الشعبي ، والحسن البصري ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وغير واحد : إن هذه الآية نزلت في ذلك .
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } قال : كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه ، فقال الله : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا } أن نجمعه لك { وَقُرْآنَهُ } أن نقرئك فلا تنسى .
وقال ابن عباس وعطية العوفي : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } تبيين حلاله وحرامه . وكذا قال قتادة .
وقوله : فإذَا قَرأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : تأويله : فإذا أنزلناه إليك فاستمع قرآنه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور وابن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس فإذَا قَرأناهُ : فإذا أنزلناه إليك فاتّبِعْ قُرآنَهُ قال : فاستمع قرآنه .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فإذَا قرأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ : فإذا أنزلناه إليك فاستمع له .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا تُلي عليك فاتبع ما فيه من الشرائع والأحكام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فإذَا قَرأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ يقول : إذا تلي عليك فاتبع ما فيه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فإذا قَرأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ يقول اتبع حلالَه واجتنب حرامه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فإذَا قَرَأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ يقول : فاتبع حلاله ، واجتنب حرامه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فاتّبِعْ قُرآنَهُ يقول : اتبع ما فيه .
وقال آخرون : بل معناه : فإذا بيّناه فاعمل به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : فإذَا قَرأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ يقول : اعمل به .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : فإذا تُلي عليك فاعمل به من الأمر والنهي ، واتبع ما أُمرت به فيه ، لأنه قيل له : إن علينا جمعه في صدرك وقرآنه ودللنا على أن معنى قوله : وقُرآنَهُ : وقراءته ، فقد بين ذلك عن معنى قوله : فإذَا قَرأناهُ فاتّبِعْ قُرآنَهُ ثُمّ إنّ عَلَيْنا بَيانَهُ يقول تعالى ذكره : ثم إن علينا بيان ما فيه من حلاله وحرامه ، وأحكامه لك مفصلة .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ثُمّ إنّ عَلَيْنا بَيانَهُ يقول : حلاله وحرامه ، فذلك بيانه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ إنّ عَلَيْنا بَيانَهُ بيان حلاله ، واجتناب حرامه ، ومعصيته وطاعته .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم إن علينا تبيانه بلسانك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ثُمّ إنّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال : تبيانه بلسانك .
ثم إن علينا بيانه بيان ما أشكل عليك من معانيه وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين فكيف بها في غيره أو بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات وقيل الخطاب مع الإنسان المذكور والمعنى أنه يؤتى كتابه فيتلجلج لسانه من سرعة قراءته خوفا فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به فإن علينا بمقتضى الوعد جمع ما فيه من أعمالك وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته بالإقرار أو التأمل فيه ثم إن علينا بيان أمره بالجزاء عليه .
و { ثم } في { ثم إن علينا بيانه } للتراخي في الرتبة ، أي التفاوتتِ بين رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قولُه { إنَّ علينا جَمْعه وقرآنه } ، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي { إِن علينا بيانه } . ومعنى الجملتين : أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك ، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك ، أي عن ظهر قلبك لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظاً في الصدور بيّناً لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قُرب أو بُعد .
فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه .
وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبيّن متمسكين بأن { ثم } للتراخي وهو متمسَّك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته { ثم } إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن ، ولأن { ثم } قد عَطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ { بيانه } خاصة ، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقاً لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح .