سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون
هذه السورة المكية تصور جانباً من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، واتباعهم للهوى اتباعاً كاملاً في غير ما تحرج من حق واضح أو برهان ذي سلطان . كذلك تصور كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى ؛ وهو يواجهها بآيات الله القاطعة العميقة التأثير والدلالة ، ويذكرهم عذابه ، ويصور لهم ثوابه ، ويقرر لهم سننه ، ويعرفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود .
ومن خلال آيات السورة وتصويرها للقوم الذين واجهوا الدعوة في مكة ، نرى فريقاً من الناس مصرا على الضلالة ، مكابراً في الحق ، شديد العناد ، سيىء الأدب في حق الله وحق كلامه ، ترسمه هذه الآيات ، وتواجهه بما يستحقه من الترذيل والتحذير والتهديد بعذاب الله المهين الأليم العظيم :
( ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، فبشره بعذاب أليم . وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً ، أولئك لهم عذاب مهين . من ورائهم جهنم ، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم ) . .
ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب سيئي التصور والتقدير ؛ لا يقيمون وزناً لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسون بالفارق الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات . والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقاً أصيلاً في ميزان الله بين الفريقين ، ويقرر سوء حكمهم وسوء تصورهم للأمور ؛ وقيام الأمر في ميزان الله على العدل الأصيل في صلب الوجود كله منذ بدء الخلق والتكوين :
( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ? ساء ما يحكمون ! وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ، وهم لا يظلمون ) . .
ونرى فريقاً من الناس لا يعرف حكماً يرجع إليه إلا هواه ، فهو إلهه الذي يتعبده ، ويطيع كل ما يراه . نرى هذا الفريق من الناس مصوراً تصويراً فذاً في هذه الآية ؛ وهو يعجب من أمره ويشهر بغفلته وعماه :
( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ? فمن يهديه من بعد الله ? أفلا تذكرون ? ) . .
ونرى هذا الفريق من الناس ينكر أمر الآخرة ، ويشك كل الشك في قضية البعث والحساب ، ويتعنت في الإنكار وفي طلب البرهان بما لا سبيل إليه في هذه الأرض . والقرآن يوجه هذا الفريق إلى الدلائل القائمة الحاضرة على صدق هذه القضية ، وهم عنها معرضون :
( وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر . وما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يظنون . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . قل : الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
ويجوز أن يكون هؤلاء جميعاً فريقاً واحداً من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك . كما يجوز أن يكونوا فرقاً متعددة ممن واجهوا الدعوة في مكة . بما في ذلك بعض أهل الكتاب ، وقليل منهم كان في مكة . ويجوز أن تكون هذه إشارة عن هذا الفريق ليعتبر بها أهل مكة دون أن يقتضي هذا وجوده في مكة بالذات في ذلك الحين .
وعلى أية حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث . . كذلك واجههم بآيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، وحذرهم حساب يوم القيامة ، وبصرهم بما جرى لمن قبلهم ممن انحرفوا عن دين الله القويم .
واجههم بآيات الله في هذا الأسلوب البسيط المؤثر العميق :
( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون . تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ? ) . .
وواجههم بها مرة أخرى في صورة نعم من أنعم الله عليهم يغفلون عن تذكرها وتدبرها :
( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
كذلك واجههم بحالهم يوم القيامة الذي ينكرونه أو يمارون فيه :
( ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون . وترى كل أمة جاثية . كل أمة تدعى إلى كتابها . اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته . ذلك هو الفوز المبين . وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين ? وإذا قيل : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها . قلتم : ما ندري ما الساعة ، إن نظن إلا ظناً ، وما نحن بمستيقنين . وبدا لهم سيئات ما عملوا ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . وقيل : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ، ومأواكم النار ، وما لكم من ناصرين : ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون . . )
كذلك لم يدع أي لبس أو شك في عدالة الجزاء وفردية التبعة ؛ فبين أن هذا الأصل عميق في تكوين الوجود كله ، وعليه يقوم هذا الوجود . ذلك حين يقول :
( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربكم ترجعون ) . .
وحين يرد على من يحسبون وهم يجترحون السيئات أنهم عند الله كالمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، فيقول :
( وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) . .
والسورة كلها وحدة في علاج موضوعها ؛ ولكننا قسمناها إلى درسين اثنين لتيسير عرضها وتفصيلها .
وهي تبدأ بالأحرف المقطعة : حا . ميم . والإشارة إلى القرآن الكريم : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . . وتختم بحمد الله وربوبيته المطلقة ، وتمجيده وتعظيمه ، إزاء أولئك الذين يغفلون عن آياته ويستهزئون بها ويستكبرون عنها : ( فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين . وله الكبرياء في السماوات والأرض ، وهو العزيز الحكيم ) . .
ويسير سياق السورة في عرض موضوعها في يسر وهوادة وإيضاح هادىء ، وبيان دقيق عميق . على غير ما يسير سياق سورة الدخان قبلها في إيقاع عنيف كأنه مطارق تقرع القلوب .
والله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق . وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادى ء الرقيق . حسب تنوعها هي واختلافها . وحسب تنوع حالاتها ومواقفها في ذاتها . وهو اللطيف الخبير . وهو العزيز الحكيم . .
( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون . واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، آيات لقوم يعقلون ) . .
يذكر الحرفين : حا . ميم ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . وفيهما دلالة على مصدر الكتاب ، كما أسلفنا الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور . من ناحية أن هذا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الأحرف ، وهم لا يقدرون على شيء منه ،
فهذه دلالة قائمة على أن تنزيل هذا الكتاب من الله( العزيز )القادر الذي لا يعجزه شيء . ( الحكيم )الذي يخلق كل شيء بقدر ، ويمضي كل أمر بحكمة . وهو تعقيب يناسب جو السورة وما تتعرض له من ألوان النفوس .