التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الجاثية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة " الجاثية " هي السورة الخامسة والأربعون في ترتيب المصحف . وكان نزولها بعد سورة " الدخان " . وعدد آياتها سبع وثلاثون آية في المصحف الكوفي ، وست وثلاثون في غيره ، لاختلافهم في قوله –تعالى- [ حم ] . هل هو آية مستقلة أو لا .

2- وقد افتتحت هذه السورة بالثناء على القرآن الكريم ، وبدعوة الناس إلى التدبر والتأمل في هذا الكون العجيب ، وما اشتمل عليه من سموات وأرض ، ومن ليل ونهار ، ومن أمطار ورياح . . فإن هذا المتأمل من شأنه أن يهدي إلى الحق ، وإلى أن لهذا الكون إلها واحدا قادرا حكيما . هو الله رب العالمين .

قال –تعالى- : [ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين . وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ] .

3- ثم توعد –سبحانه- بعد ذلك الأفاكين بأشد أنواع العذاب ، لإصرارهم على كفرهم ، واتخاذهم آيات الله هزوا .

قال –تعالى- : [ ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها ، فبشره بعذاب أليم . وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين ] .

4- ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان جانب من نعم الله –تعالى- على خلقه ، تلك النعم التي تتمثل في البحر وما اشتمل عليه من خيرات ، وفي السموات والأرض وما فيهما من منافع .

قال –سبحانه- : [ الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ] .

5- ثم بين –سبحانه- موقف بني إسرائيل من نعم الله –تعالى- ، وكيف أنهم قابلوا ذلك بالاختلاف والبغي ، ونهى –سبحانه- نبيه صلى الله عليه وسلم عن الاستماع إليهم ، وبين أنه لا يستوي عنده –عز وجل- الذين اجترحوا السيئات ، والذين عملوا الصالحات .

فقال –تعالى- : [ أم حسب الذين اجترحوا السيئات ، أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . وخلق الله السموات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ] .

ثم حكى بعض الأقوال الباطلة التي تفوه بها الكافرون ، ورد عليها بما يزهقها ويثبت كذبها ، قال –تعالى- : [ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون . وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن " كنتم صادقين . قل الله يحييكم ، ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ] .

6- ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في بيان أهل يوم القيامة ، وفي بيان عاقبة الأخيار وعاقبة الأشرار .

قال –تعالى- : [ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين . وأما الذين كفروا ، أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ] .

7- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة بالثناء على ذاته بما هو أهله ، فقال –تعالى- : [ فلله الحمد رب السموات ورب الأرض ، رب العالمين ، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ] .

هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها تدعو الناس إلى التفكر فيما اشتمل عليه هذا الكون من آيات دالة على وحدانية الله –تعالى- وكمال قدرته ، كما أنه يراها تحكي بشيء من التفصيل أقوال المشركين وترد عليها ، وتبين سوء عاقبتهم ، كما يراها تسوق ألوانا من نعم الله على خلقه ، وتدعو المؤمنين إلى التمسك بكتاب ربهم ، وتبشرهم بأنهم متى فعلوا ذلك ظفروا برضوان الله تعالى وثوابه .

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ، ذلك هو الفوز المبين ، كما يراها تهتم بتفصيل الحديث عن أهوال يوم القيامة ، لكي يفيء الناس إلى رشدهم ، ويستعدوا لاستقبال هذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح .

قال –تعالى- : [ وترى كل أمة جاثية ، كل أمة تدعى إلى كتابها ، اليوم تجزون ما كنتم تعملون . هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ] .

نسأل الله –تعالى- أن ينجينا من أهوال هذا اليوم ، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . ذلك الفضل من الله ، وكفى بالله عليما .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

سورة " الجاثية " من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي ، وقد سبق أن قلنا ، إن هذه الحروف الرأي الراجح في معناها ، أنها سيقت للتنبيه على إعجاز القرآن ، وعلى أنه من عند الله - عز وجل - .