وقد عقب على هذا التخفيف والتيسير ، ومراعاة الأحوال والظروف بقوله :
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وأن الله تواب حكيم ) . .
ولم يبين ما الذي كان يكون لولا فضل الله ورحمته بمثل هذه التيسيرات ، وبالتوبة بعد مقارفة الذنوب . . لم يبينه ليتركه مجملا مرهوبا ، يتقيه المتقون . والنص يوحي بأنه شر عظيم .
وقد وردت روايات صحيحة في سبب نزول هذا الحكم :
روى الإمام أحمد - يإسناده - عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا )قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار - رضي الله عنه - : أهكذا أنزلت يا رسول الله ? فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ? " فقالوا : يا رسول الله لا تلمه ، فإنه رجل غيور . والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا ، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . . فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق ، وأنها من الله ؛ ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء . فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . . قال : فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية ، فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا ، فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء ، فوجدت عندها رجلا ، فرأيت بعيني وسمعت بأذني . . فكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ما جاء به ؛ واشتد عليه ؛ واجتمعت عليه الأنصار وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، إلا أن يضرب رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] هلال بن أمية ، ويبطل شهادته في الناس . فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله منها مخرجا . وقال هلال : يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به ، والله يعلم إني لصادق . . فوالله إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الوحي . وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه . [ يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي ] فنزلت : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله . . . الآية فسري عن رسول الله فقال : " أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " . . فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " أرسلوا إليها " فأرسلوا إليها فجاءت ؛ فتلاها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عليهما ، فذكرهما ، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا . فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها . فقالت : كذب . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لاعنوا بينهما " . . فقيل لهلال : اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . فلما كانت الخامسة قيل له : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها . فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . . ثم قيل للمرأة . اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين . وقيل لها عند الخامسة : اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة . وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف . ثم قالت : والله لا أفضح قومي . فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . . ففرق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بينهما ؛ وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ؛ ولا يرمي ولدها ؛ ومن رمى ولدها فعليه الحد ؛ وقضى أن لا بيت لها عليه ، ولا قوت لها ، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها . وقال : " إن جاءت به ، أصهيب أريسح حمش الساقين فهو لهلال . . وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به " . . فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " . .
وهكذا جاء هذا التشريع لمواجهة حالة واقعة بالفعل ، وعلاج موقف صعب على صاحبه وعلى المسلمين ، قد اشتد على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يجد منه مخرجا ، حتى طفق يقول لهلال بن أمية - كما ورد في رواية البخاري - " البينة أو حد في ظهرك " وهلال يقول : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة ?
ولقد يقول قائل : أليس الله - سبحانه - يعلم أن هذه الحالة قد تعترض التشريع العام للقذف ؛ فلماذا لم ينزل الله الاستثناء إلا بعد ذلك الموقف المحرج ?
والجواب : بلى إنه سبحانه ليعلم . ولكن حكمته تقتضي أن ينزل التشريع عند الشعور بالحاجة إليه ، فتستقبله نفوس الناس باللهفة إليه ، وإدراك ما فيه من حكمة ورحمة . ومن ثم عقب عليه بقوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) .
ونقف قليلا أمام هذه الواقعة ، لنرى كيف صنع الإسلام ، وكيف صنعت تربية رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للناس لهذا القرآن . . كيف صنع هذا بالنفس العربية الغيور الشديدة الانفعال ، المتحمسة التي لا تفكر قصة الافك طويلا قبل الاندفاع . فهذا حكم ينزل بعقوبة القذف ، فيشق على هذه النفوس . يشق عليها حتى ليسأل سعد ابن عبادة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أهكذا أنزلت يا رسول الله ? يسأل هذا السؤال وهو مستيقن أنها هكذا أنزلت . ولكنه يعبر بهذا السؤال عن المشقة التي يجدها في نفسه من الخضوع لهذا الحكم في حالة معينة في فراشه . وهو يعبر عن مرارة هذا التصور بقوله : " والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق . وأنها من الله ؛ ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ? فوالله إني لا آتي بهم حتى يكون قد قضى حاجته " !
وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عبادة في خياله . . ما يلبث أن يتحقق . . فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ، ولكنه يجد نفسه محجوزا بحاجز القرآن ؛ فيغلب مشاعره ، ويغلب وراثاته ، ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق ؛ ويكبح غليان دمه ، وفوران شعوره ، واندفاع أعصابه . . ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو جهد شاق مرهق ؛ ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله ، في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة .
كيف أمكن أن يحدث هذا ? لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم ، وأنهم في كنف الله ، وأن الله يرعاهم ، ولا يكلفهم عنتا ولا رهقا ، ولا يتركهم عندما يتجاوز الأمر طاقتهم ، ولا يظلمهم أبدا . كانوا يعيشون دائما في ظل الله ، يتنفسون من روح الله ، ويتطلعون إليه دائما كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم . . فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ، وهو وحده ؛ فيشكو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فلا يجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مناصا من تنفيذ حد الله ، وهو يقول له : " البينة . أو حد في ظهرك " ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد ، وهو صادق في دعواه . فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج ؛ فيبشر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هلالا به ؛ فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل . . فهو الاطمئنان إلى رحمة الله ورعايته وعدله . والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم ، وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم ؛ إنما هم في حضرته ، وفي كفالته . . وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته بكم ، وأنه عَوّاد على خلقه بلطفه وطَوْله ، حكيم في تدبيره إياهم وسياسته لهم لعاجلكم بالعقوبة على معاصيكم وفضَح أهل الذنوب منكم بذنوبهم ، ولكنه ستر عليكم ذنوبكم وترك فضيحتكم بها عاجلاً ، رحمة منه بكم وتفضلاً عليكم ، فاشكروا نعمه وانتهوا عن التقدّم عما عنه نهاكم من معاصيه . وترك الجواب في ذلك ، اكتفاء بمعرفة السامع المراد منه .