بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (10)

ثم قال عز وجل : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ؛ وجوابه مضمر ، ومعناه ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، لبين لكم الصادق من الكاذب ؛ ويقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، لنال الكاذب منكم بما ذكرناه من عذاب عظيم . ثم قال : { وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ } ، يعني : تواب لمن تاب ورجع ، حكيم بينهما بالملاعنة .

قوله عز وجل : { إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } ، يعني : قالوا بالكذب ؛ وقال الأخفش : الإفك أسوأ الكذب ، وهذه الآية نزلت ببراءة عائشة رضي الله عنها . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله أخبرني الثقة بإسناده ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب ، وكان ذلك في غزوة بني المصطلق . قالت : فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه في مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته وقفل ودنونا من المدينة ، أذن ليلة بالرحيل ، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش . فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي . فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فحملوا هودجي ورحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه . قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلهن ولم يفشهن اللحم . إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج ، حين رحلوه ورفعوه .

وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا . ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب . قالت : فجلست مكاني ، فظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي ، إذ غلبني النوم ، فنمت وقد كان صفوان بن المعطل السلمي يمكث في المعسكر ؛ إذا ارتحل الناس ، يتبع ما يقع من الناس من أمتعتهم ، فيحمله إلى المنزل الآخر ، فيعرفه فتجيء الناس ويأخذون أمتعتهم . وكان لا يكاد يذهب من العسكر شيء ، فأصبح صفوان عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ؛ وقد كان يراني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب فاسترجع ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي .

فوالله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، حتى أناخ راحلته فركبتها فانطلق بي يقود بي الراحلة .

قالت : وكان عبد الله بن أبي ، إذا نزل في العسكر ، نزل في أقصى العسكر ، فيجتمع إليه ناس فيحدثهم ويتحدثون . قالت : وكان معه في مجلسه يومئذ حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، فافتقد الناس عائشة حين نزلوا صحوة ، وهاج الناس في ذكرها أن عائشة قد فقدت ، ودخل علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن عائشة قد فقدت . فبينما الناس كذلك إذ دنا صفوان بن المعطل ، فتكلم عبد الله بن أبيّ بما تكلم ، وحسان بن ثابت وسائرهم ، وأفشوه في العسكر . وخاض أهل العسكر فيه ، فجعل يرويه بعضهم عن بعض ، ويحدث بعضهم بعضاً .

قالت وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي . إنما يدخل ويسلم ثم يقول : « كَيْفَ تِيكُمْ » فذلك يُريبُني ؟ ولا أشعر بالسر . فلما رأيت ذلك ، قلت : يا رسول الله ، لو أذنت لي فانقلبت إلى أبويّ يمرضاني . قال : « لا بَأْس عَلَيْكِ » وإنما قلت ذلك لما رأيت من جفائه . قالت : فانقلبت إلى أمي ، ولا علم لي بشيء مما كان ، حتى قمت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة .

قالت : وكانوا لا يتخذون الكنف في بيوتهم ، إنما كانوا يذهبون في فسح المدينة . قالت : فخرجت في بعض الليل ، ومعي أم مسطح ، حتى فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح ، فقالت : تعس مسطح . فقلت لها : بئس ما صنعت ، تسبين رجلاً وقد شهد بدراً . فقالت : أولم تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضاً إلى مرضي ، وأخذتني الحمى مكاني ، فرجعت أبكي .

ثم قلت لأمي : يغفر الله لك ، تحدث الناس بما تحدثوا به ، ولا تذكرين لي منه شيئاً . فقالت : هوني عليك ، فوالله لقلَّ ما كانت امرأة قط رضية عند رجل يحبها ولها ضرائر ، إلا كثرن عليها . قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ؛ ثم أصبحت أبكي . ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حيت استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله . فأما علي بن أبي طالب ، فقال : لم يضيق الله عليك والنساء كثير فاستبدل . وأما أسامة بن زيد ، فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود .

فقال يا رسول الله ، ما علمت منها إلا خيراً ، فلا تعجل وانظر واسأل أهلك . قال : فسأل حفصة بنت عمر عنها ، فقالت : يا رسول الله ، ما رأيت عليها سوءاً قط . وسأل زينب بنت جحش ، فقالت مثل ذلك ، وسأل بريرة فقال : « أيْ بَرِيرَةُ ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ ؟ » قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق نبياً ، ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه عليها ، غير أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله .

قالت : فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل علي ، وعندي أبواي ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : « يا عَائِشَةُ ، لَقَدْ بَلَغَكِ مَا يَقُولُ النَّاسُ ، فَإنْ كَانَ مَا يَكُونُ مِنْكِ زَلَّةَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ ، فَتُوبي إلى الله تَعَالَى ؛ فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ . فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ ، تَابَ الله عَلَيْهِ » . فانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني ، فلم يفعلا ، فقلت : يا أبت أجبه ، فقال : ماذا أقول ؟ فقلت : يا أماه أجيبيه . فقالت : ماذا أقول ؟ ثم استعبرت فبكيت ، فقلت : لا والله لا أتوب مما ذكروني به وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس ، لقلت وأنا منه بريئة ، ولا أقول فيما لم يكن حقاً . ولئن أنكرت ، فلا تصدقني .

قالت : ثم أنسيت اسم يعقوب ، فلم أذكره ، فقلت : ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] قالت : فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى تغشاه من الله ما كان يغشاه . قالت : أنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله عز وجل يبرئني ، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحياً يتلى ، ولساني كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بقرآن يقرأ به في المساجد ، ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه شيئاً ببراءتي فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عَائِشَةُ أبْشِرِي ، أَمَا والله فَقَدْ بَرَّأَكِ الله تَعَالَى » . فقالت لي أمي : قومي إليه . فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله تعالى ، هو الذي أنزل براءتي .

وفي رواية قالت : أحمد الله تعالى وأذمكم . قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصعد المنبر ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ثم قال : « يا أيُّها النَّاسُ مَنْ يُعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ ، قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي برَجُلٍ ما رَأَيْتُ عَلَيْهِ سُوءاً قَطُّ ، وَلا دَخَلَ على أهْلِي إلاَّ وأنَا مَعَهُ » .

فقام سعد بن معاذ ، فقال : أخبرنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو ؟ فإن يكن من الأوس نقتله ، وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأياً ، أمرتنا ففعلنا أمرك . فقام سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ، ولكن حملته الحمية ، فقال : كلا ولكنها عداوتك للخزرج . قال : فاسْتَبَّا ، فقام أسيد بن حضير الأوسي ، وقال : يا سعد بن عبادة ، أتقول هذا . كلا والله ولكنك منافق تحب المنافقين ، فاستب حي هذا وحي هذا ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللغط ، نزل وتركهم ، وقد تلا عليهم ما أنزل الله عليه في أمر عائشة رضي الله عنها