{ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ْ } محذرين عن اتباع شعيب ، { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ْ } هذا ما سولت لهم أنفسهم أن الخسارة والشقاء في اتباع الرشد والهدى ، ولم يدروا أن الخسارة كل الخسارة في لزوم ما هم عليه من الضلال والإضلال ، وقد علموا ذلك حين وقع بهم النكال .
يخبر تعالى عن شدة كفر قوم شعيب وتمردهم وعتوهم ، وما هم فيه من الضلال ، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ، ولهذا أقسموا وقالوا{[11969]} { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ }
عُطفت جملة : { وقال الملأ } ولم تفصل كما فصلت التي قبلها لانتهاء المحاورة المقتضية فصل الجمل في حكاية المحاورة ، وهذا قول أنف وجه فيه الملأ خطابهم إلى عامة قومهم الباقين على الكفر تحذيراً لهم من اتباع شعيب خشية عليهم من أن تحيك في نفوسهم دعوة شعيب وصدْق مجادلته ، فلما رأوا حجته ساطعة ولم يستطيعوا الفلج عليه في المجادلة ، وصمموا على كفرهم ، أقبلوا على خطاب الحاضرين من قومهم ليحذروهم من متابعة شعيب ويهددوهم بالخسارة .
وذِكْرُ { المَلأ } إظهار في مقام الإضمار لبعد المعاد . وإنّما وصف الملأ بالموصول وصلته دون أن يكتفي بحرف التعريف المقتضي أن الملأ الثاني هو الملأ المذكور قبله ، لقصد زيادة ذم الملأ بوصف الكفر ، كما ذم فيما سبق بوصف الاستكبار .
ووصف { الملأ } هنا بالكفر لمناسبة الكلام المحكي عنهم ، الدال على تصلبّهم في كفرهم ، كما وصفوا في الآية السابقة بالاستكبار لمناسبة حال مجادلتهم شعيباً ، كما تقدم ، فحصل من الآيتين أنّهم مُستكبرون كافرون .
والمخاطب في قوله : { لئن اتّبعتم شعيباً } هم الحاضرون حين الخطاب لدى الملإِ ، فحُكي كلام الملأ كما صدر منهم ، والسياق يفسر المعنيين بالخطاب ، أعني عامّة قوم شعيب الباقين على الكفر .
( واللام ) موطّئة للقسم . و { إنكم إذا لخاسرون } جواب القسم وهو دليل على جواب الشرط محذوف ، كما هو الشأن في مثل هذا التركيب .
والخُسران تقدم عند قوله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } في سورة الأنعام ( 140 ) . وهو مستعار لحصول الضر من حيث أريد النفع ، والمراد به هنا التحذير من أضرار تحصل لهم في الدنيا من جراء غضب آلهتهم عليهم ، لأن الظاهر أنّهم لا يعتقدون البعث ، فإن كانوا يعتقدونه ، فالمراد الخسران الأعم ، ولكن الأهم عندهم هو الدنيوي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الملأ الذين كفروا من قومه}، وهم الكبراء للضعفاء، {لئن اتبعتم شعيبا} على دينه، {إنكم إذا لخاسرون}، يعني لعَجَزة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقالت الجماعة من كَفَرَةِ رجال قوم شعيب، وهم الملأ الذين جحدوا آيات الله وكذّبوا رسوله وتمادوا في غيهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم شعيبا على ما يقول وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله والانتهاء إلى أمره ونهيه وأقررتم بنبوّته، "إنّكُمْ إذًا لخَاسِرُونَ "يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون إلى دينه الذي يدعوكم إليه، وهالكون بذلك من فعلكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم يحتمل قوله تعالى: {إنكم إذا لخاسرون} وجوها:
أحدها: أن شعيبا كان يحذر قومه بالتطفيف في الكيل والوزن، ويأمرهم بوفاء حقوق الناس بقوله تعالى: {فأوفوا الكيل والميزان} [الأعراف: 85] ولا تكونوا كذا وقوله تعالى: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [هود: 85] فيقول الكبراء والرؤساء للسفلة {لئن اتبعتم شعيبا} في دينه وما يأمركم به من وفاء الحق للناس فإنكم {إذا لخاسرون} للأرباح.
والثاني: أنه كان يحذّرهم، ويمنعهم عن عبادة الأصنام والأوثان، ويدعوهم إلى عبادة الله، ويرغّبهم في ذلك، وهم كانوا يعبدون تلك الأصنام لتقرّب عبادتهم إياها إلى الله زلفى، وتكون لهم شفعاء في الآخرة فقالوا: {لئن اتّبعتم شعيبا} في ما يدعوكم إليه، وينهاكم عنه لكنتم من الخاسرين؛ لا شفعاء لكم في الآخرة.
والثالث: أنهم كانوا يوعدون شعيبا بالإخراج بقولهم: {لنخرجنّك يا شعيب} [الأعراف: 88] فقالوا: {لئن اتّبعتم شعيبا} وهو يخرج، لا محالة، فتخرجون أنتم، فتصيرون من الخاسرين، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تواصوا فيما بينهم بتكذيب نبيِّهم، وأشار بعضهم باستشعار وقوع الفتنة بمتابعته، وكانوا مخطئين في حكمهم، مبطلين في ظنهم، فعُلِمَ أنَّ كل نصيحة لا يجب قبولها، وكل إشارة لا يَحْسُنُ اتباعُها.
اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك، حتى أضلوا غيرهم، ولاموهم على متابعته فقالوا: {لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون} واختلفوا فقال بعضهم: خاسرون في الدين وقال آخرون: خاسرون في الدنيا، لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس. وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولا وفي الإضلال ثانيا، فاستحقوا الإهلاك فلهذا قال تعالى: {فأخذتهم الرجفة}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا عطف على {قال الملأ الذين استكبروا} وليس جوابا لشعيب عليه السلام ولا داخلا في هذه المراجعة بينه وبينهم إذ لو كان كذلك لفصل ولم يعطف، بل ذلك ما قالوه له والمناسب فيه وصفهم بالاستكبار فهو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره الإخراج من قريتهم المشعر بأنهم هم أصحاب السلطان فيها، وهذا ما قالوه لقومهم إغواء لهم بصدهم عن الإيمان له، والأخذ بما جاء به، والمناسب فيه وصفهم بالكفر، فهو الحامل لهم عليه، سواء كان سببه الاستكبار عن اتباعه أو غيره، بل لو علم أولو الرأي من قومهم أن سبب صدّهم عنه هو الاستكبار والعتو لما أطاعوهم، ولذلك عللوا لهم صدهم عنه بما يوهمهم أنه هو المصلحة لهم إذ قالوا لهم بصيغة القسم لئن اتبعتم شعيبا إنكم في هذه الحالة لخاسرون، وحذف متعلق الخسار ليعم كل ما يصلح له، أي خاسرون لشرفكم ومجدكم، بإيثار ملته على ملة آبائكم وأجدادكم، ومناط عزكم وفخركم، واعترافكم بأنهم كانوا كافرين ضالين وأنهم معذبون عند الله تعالى – وخاسرون لثروتكم وربحكم من الناس بما حذفتموه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم، وأي خسارة أكبر من خسارة الشرف والثروة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها ملامح المعركة التي تتكرر ولا تتغير.. إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة. فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه، واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته، ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل.. تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد، ثم بالبطش والعذاب.. إنهم لا يملكون حجة على باطلهم، ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب؛ ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم -وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل- ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان، الذي أخلصوا الدينونة للّه فأخلصوا له السلطان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُطفت جملة: {وقال الملأ} ولم تفصل كما فصلت التي قبلها لانتهاء المحاورة المقتضية فصل الجمل في حكاية المحاورة، وهذا قول أنف وجه فيه الملأ خطابهم إلى عامة قومهم الباقين على الكفر تحذيراً لهم من اتباع شعيب خشية عليهم من أن تحيك في نفوسهم دعوة شعيب وصدْق مجادلته، فلما رأوا حجته ساطعة ولم يستطيعوا الفلج عليه في المجادلة، وصمموا على كفرهم، أقبلوا على خطاب الحاضرين من قومهم ليحذروهم من متابعة شعيب ويهددوهم بالخسارة.
وذِكْرُ {المَلأ} إظهار في مقام الإضمار لبعد المعاد. وإنّما وصف الملأ بالموصول وصلته دون أن يكتفي بحرف التعريف المقتضي أن الملأ الثاني هو الملأ المذكور قبله، لقصد زيادة ذم الملأ بوصف الكفر، كما ذم فيما سبق بوصف الاستكبار.
ووصف {الملأ} هنا بالكفر لمناسبة الكلام المحكي عنهم، الدال على تصلبّهم في كفرهم، كما وصفوا في الآية السابقة بالاستكبار لمناسبة حال مجادلتهم شعيباً، كما تقدم، فحصل من الآيتين أنّهم مُستكبرون كافرون.
والمخاطب في قوله: {لئن اتّبعتم شعيباً} هم الحاضرون حين الخطاب لدى الملإِ، فحُكي كلام الملأ كما صدر منهم، والسياق يفسر المعنيين بالخطاب، أعني عامّة قوم شعيب الباقين على الكفر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وهم يلتفتون إلى قوم شعيب ليجرّبوا أن يهزموهم نفسياً بأساليب التخويف من النتائج السلبية والعواقب الوخيمة: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسرون}، لأن شعيباً لا يملك الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية التي تجعل من الارتباط به أو اتّباعه مسألةً مُربحةً، بل على العكس من ذلك، فإن دعوته تعزل أتباعه عن الفعاليات التي تملك القوة والجاه والمال، وتمنعهم من الحصول على الامتيازات المتنوعة والفرص الجيّدة الموجودة عندهم، فيخسرون ذلك كله من دون مقابل، لأن شعيباً لا يمثل شيئاً أيَّ شيء. وكان هذا الإنذار الأخير الذي وجّهوه إليهم، فماذا كانت النتيجة؟ لقد انقلب السحر على الساحر، وأصبح من كذبوا شعيباً هم الذين خسروا الدنيا والآخرة،...