{ وَكَانُوا } من كثرة إنعام الله عليهم { يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } من المخاوف مطمئنين في ديارهم ، فلو شكروا النعمة وصدقوا نبيهم صالحا عليه السلام لأدرَّ الله عليهم الأرزاق ، ولأكرمهم بأنواع من الثواب العاجل والآجل ، ولكنهم -لما كذبوا وعقروا الناقة ، وعتوا عن أمر ربهم وقالوا : { يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين }
وذكر تعالى : أنهم { كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } أي : من غير خوف ولا احتياج إليها ، بل أشرا وبطرا وعبثا ، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر ، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فَقَنَّع رأسه وأسرع دابته ، وقال لأصحابه : " لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم " {[16224]}
وقوله تعالى : { وكانوا ينحتون } الآية ، يصف قوم صالح بشدة النظر للدنيا والتكسب منها فذكر من ذلك مثالاً أن بيوتهم كانوا ينحتونها من حجر الجبال ، و «النحت » النقر بالمعاول ونحوها في الحجارة والعود ونحوه ، وقرأ جمهور الناس «ينحِتون » بكسر الحاء ، وقرأ الحسن «ينحَتون » بفتحها ، وذلك لأجل حرف الحلق ، وهي قراءة أبي حيوة ، وقوله { آمنين } قيل معناه من انهدامها ، وقيل من حوادث الدنيا ، وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة . فكانوا لا يعملون بحسبها ، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فأخبر عنهم، فقال سبحانه: {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين} من أن تقع عليهم الجبال إذا نحتوها وجوفوها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وكان أصحاب الحجر، وهم ثمود قوم صالح، "ينحِتون مِنَ الجبالِ بُيُوتا آمِنِينَ "من عذاب الله، وقيل: آمنين من الخراب أن تخرب بيوتهم التي نحتوها من الجبال...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين} مما وعدهم صالح من عذاب الله حين قالوا: {يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} (الأعراف: 77) كانوا آمنين عن ذلك. وقال بعضهم: كانوا آمنين عن أن يقع عليهم ما نحتوا لحذاقتهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وكانوا مُغْتَرِّين بطول إمهال الله إياهم من تأخير العقوبة عنهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"ءامِنِينَ" لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تتهدم ويتداعى بنيانها، ومن نقب اللصوص ومن الأعداء وحوادث الدهر. أو آمنين من عذاب الله يحسبون أنّ الجبال تحميهم منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يصف قوم صالح بشدة النظر للدنيا والتكسب منها فذكر من ذلك مثالاً أن بيوتهم كانوا ينحتونها من حجر الجبال، و «النحت» النقر بالمعاول ونحوها في الحجارة والعود ونحوه، وقرأ جمهور الناس «ينحِتون» بكسر الحاء، وقرأ الحسن «ينحَتون» بفتحها، وذلك لأجل حرف الحلق، وهي قراءة أبي حيوة، وقوله {آمنين} قيل معناه من انهدامها، وقيل من حوادث الدنيا، وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمار... وهذا كله ضعيف، وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة. فكانوا لا يعملون بحسبها، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وكانوا ينحتون} والنحت: قلع جزء بعد جزء من الجسم على سبيل المسح {من الجبال} التي تقدم أنا جعلناها رواسي {بيوتاً ءامنين} عليها من الانهدام، وبها من لحاق ما يكره، لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَكَانُوا} من كثرة إنعام الله عليهم {يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}... فلو شكروا النعمة وصدقوا نبيهم صالحا عليه السلام لأدرَّ الله عليهم الأرزاق، ولأكرمهم بأنواع من الثواب العاجل والآجل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون).. وهذه اللمحة الخاطفة من الأمن في البيوت الحصينة في صلب الجبال، إلى الصيحة التي تأخذهم فلا تبقي لهم مما جمعوا ومما كسبوا ومما بنوا ومما نحتوا شيئا يغني عنهم ويدفع الهلاك الخاطف.. هذه اللمحة تلمس القلب البشري لمسة عنيفة. فما يأمن قوم على أنفسهم أكثر مما يأمن قوم بيوتهم منحوتة في صلب الصخور. وما يبلغ الاطمئنان بالناس في وقت أشد من اطمئنانهم في وقت الصباح المشرق الوديع..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {وكانوا ينحتون} معترضة. والنّحتُ: بَرْي الحجر أو العود من وسطه أو من جوانبه. و {من الجبال} تبعيض متعلق ب {ينحتون}. والمعنى من صخر الجبال، لما دلّ عليه فعل {ينحتون}. و {آمنين} حال من ضمير {ينحتون} وهي حال مقدرة، أي مقدرين أن يكونوا آمنين عقب نحتها وسكناها. وكانت لهم بمنزلة الحصون لا ينالهم فيها العدو. ولكنهم نسوا أنها لا تأمنهم من عذاب الله فلذلك قال: {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}.
وهنا يمتن عليهم بأن منحهم حضارة، ووهبهم مهارة البناء والتقدم في العمارة؛ وأخذوا في بناء بيوتهم في الأحجار، ومن الأحجار التي كانت توجد بالوادي الذي يقيمون فيه، وقطعوا تلك الأحجار بطريقة تتيح لهم بناء البيوت والقصور الآمنة من أغيار التقلبات الجوية وغيرها. ونعلم أن من يعيش في خيمة يعاني من قلة الأمن؛ أما من يبني بيته من الطوب اللبن؛ فهو أكثر أمناً ممن في الخيم، وإن كان أقل أمانا من الذي يبني بيته من الأسمنت المسلح، وهكذا يكون أمن النفس البشرية في سكنها واستقرارها من قوة الشيء الذي يحيطه. وإذا كان قوم صالح قد أقاموا بيوتهم من الحجارة فهي بالتأكيد اكثر أمناً من غيرهم، ونجد نبيهم صالحاً، وقد قال لهم ما أورده الحق سبحانه في كتابه الكريم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (سورة الأعراف 74) ولكنهم طغوا وبغوا وأنكروا ما جاء به صالح عليه السلام فما كان من الحق سبحانه إلا أن أرسل عليهم صيحة تأخذهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وبذلك كانوا يملكون وسائل الرفاه والقوّة ومظاهر الحضارة التي تجعلهم من سكان الدور لا من سكان الخيام، كما يخضعون لنظام قويٍ من الحكم أو من العلاقات يشعرون معه بالأمن في سكناهم، أو في أنظمة مجتمعهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتشير الآية إلى أنّهم كانوا من الجد والدقّة في أُمور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين). وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبلية، بالإِضافة إلى ما توصلوا إِليه من مدنية متقدمة، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل. والعجيب من أمر الإنسان، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية، ولا يعير أيَّ اهتمام لحياته الباقية، حتى يصل به المآل لأنْ لا يكلف نفسه بسماع آيات اللّه والتفكر بها!!